زار السلطنة الأسبوع الماضي الباحث والمؤرخ الدكتور مسعود ضاهر وهو الحاصل على الإجازة التعليمية ودبلوم الدراسات العليا في التاريخ من الجامعة اللبنانية، ودكتوراة الحلقة الثالثة ثم دكتوراة دولة في التاريخ الاجتماعي من السوربون جامعة باريس الأولى. وقد تشعب وطال الحوار معه حيث تحدث في البداية عن زياراته للسلطنة، وانطباعه عن التجربة العمانية قائلا: زرت كل المناطق العمانية تقريبا، قريةً قرية، فالزيارة الأولى للسلطنة كانت قبل عشر سنوات، وذلك للمشاركة في ندوةٍ أقامتها وزارة الإعلام عن الثقافة، قدمت من خلالها بحثاً عن اليابان والتجربة اليابانية، كانت ندوة ناجحة جدا ومثرية، وأذكر أيضاً الندوة الثقافية التي أقيمت في بيروت عن السلطنة، حيث أوكلت لي المهمة بصفتي الأمين العام المساعد للمؤرخين العرب، فاقترحت على وزارة الإعلام أن نقيم ندوة بصوتين عماني وعربي، فكان الصوت العماني للدكتورة سعاد سليمان بمشاركتها ببحثها عن التجربة العمانية، وأنا كنتُ الصوت الآخر غير العماني، فقدمتُ بحثاً عن تجربة عمان بين الاستمرارية والتغيير، كانت ندوةً كبيرة حضرها حشدٌ كبير، ولأول مرة تقام ندوة في لبنان عن عمان بهذا المستوى الرفيع، ووجد بحثي ترحيباً كبيراً من قبل الكثيرين، وطالبني العديد بتطويره إلى كتاب، وفعلا تطور البحث بعد زيارات متواصلة، عرجت من خلالها على مختلف المناطق العمانية وأجريت مقابلات مع شخصيات عمانية مختلفة، من الشعب وكبار المسؤولين، بهدف الاستئناس وليس التقرير الصحفي، واطلعت على وثائق السلطنة، خصوصاً تلك التي لها علاقة بالدرجة الأولى بالمراسيم السلطانية.
التركيز على الإنسان
ويتابع كنت أتابع تطور حركة المجتمع العماني، من سنة ١٩٧٠ إلى ٢٠٠٥م وكيف تبدل المجتمع العماني وإلى أي الاتجاهات مضى؟ وما هي فلسفة التحديث؟ ومن أي المبادئ انطلقت؟ مع دراسة فكر السلطان بعناية، ولماذا التركيز على الإنسان العماني؟ كنتُ أحلل هذه التوجهات، وانعكاساتها على الأرض، خلال الخطط الخمسية، وفي إطار الخطة للعام ٢٠٢٠ م؛ وهذا دليل على وجود برنامج عمل متكامل، يعتمد على النظرية والتطبيق؛ تصويب وتصحيح الأخطاء، وتدريجيا كنت ألاحظ المجتمع العماني يتبدل، ليس فقط في المدن بل أيضا في الأرياف البعيدة، الدولة اهتمت بربط المناطق بعضها ببعض، في البداية تم التركيز على إيقاف الحرب وإقامة السلام، وأعني السلم الأهلي بالدرجة الأولى، وذلك في بناء الجيش العماني القوي، وتجاوز الخلافات القبلية، والانخراط في بناء الدولة من واقع المواطنية وليس من واقع الانتماء القبلي أو الطائفي أو العرقي، مع الانفتاح على الأفكار الحديثة، والعلوم العصرية، وعلى التكنولوجيا، ودعوة القطاع الخاص إلى المشاركة في تطوير البلد، واعتماد سياسة الحياد الإيجابي بالعلاقات الخارجية، كذلك ترسيم الحدود مع دول الجوار، مع تقديم تنازلات لا بد منها أحياناً، وحدود ثابتة ليست موضع نزاعات مستقبلية؛ كل هذه العناصر تدل على وجود فكر سياسي، وهذا الفكر السياسي جاء من نتاج رجل متنور ألا وهو السلطان قابوس.
خصوصية التجربة
وينوه لكن بمشاركة عدد كبير من العمانيين في مواقع المسؤولية في الدولة، ومراكز الوزارات، ومشاريع الانتاج في القطاع الخاص، إضافة إلى توفير الجامعات والمدارس الحكومية، وتطور التعليم إلى مدارس خاصة وجامعات خاصة ومدارس تهتم باللغة الإنجليزية، وإرسال بعثات إلى الخارج، كما عملت الحكومة على الحد من الهجرة العمانية إلى الخارج، والدعوة إلى تشجيع الأجيال الشابة، من خلال إيجاد فرص العمل للجميع، وتبني سياسة التعمين لدرجة أن المجتمع العماني اليوم بنسبة ٨٥% يعملون، أنا برأيي من أبرز إيجابيات النهضة العمانية التي تمتاز بها عن باقي دول الخليج وجود كثافة يد عاملة، وقوى بشرية عمانية موجودة على الأرض في سوق العمل وفي العلاقات العامة وفي مراكز السياحة والخدمات والبنوك... الخ؛ في حين أن بعض الدول الأخرى في الخليج يغلب عليها طابع القوى العامله الوافدة، هذه الأشياء مجتمعة، تشكل خصوصية التجربة العمانية، وأنا أعتقد أن جلالة السلطان لديه خبرة واسعة في دراسة تجارب دول أخرى، لكنه لم يقتبس عن أي منها، كان يعمل بصمتٍ شديد، ويطلع على مبادئ التحديث الناجحة وعلى رسم الاستراتيجية التي تخص المجتمع العماني وطبيعته، وكيفية الانتقال من القبيلة إلى الدولة؛ وتهدئة النزعات الداخلية، وإشعار المواطن بمسؤوليته. في تصوري الشخصي أن أكثر تجربة عربية في مجال التحديث نجحت في بناء مواطن هي التجربة العمانية؛ فالمواطن العماني الآن مستقر غير متوتر، متفهم يعرف الأوضاع التي يمر بها بلده، لا توجد لديه حساسيات طائفية أو مذهبية، ومنفتح على الثفافات العصرية، مشارك بفاعلية بدون تبجح، متواضع وخلوق، هذه سمات أساسية مهمة للمستقبل؛ وأتمنى في السنوات القادمة أن تكون لي دراسة تُكْمِل ما بدأته في الدراسة الأولى؛ لأن كتابي تناول الحقبة الممتدة من 1970 إلى 2005م، والآن نحن أمام الذكرى الأربعين للنهضة العمانية، وعادةً سن الأربعين هو سن النضوج، فالانتقال الآن إلى بناء الدولة، كيفية تفاعلها وكيفية عملها، وكيف التعاطي مع البعض الآخر، كيفية حمل المسؤولية، ففي النهاية تجربة النهضة وُجِدت لتستمر، ولن تستمر إلإ بالتفاف القوى العمانية ذات المصلحة، وخلال أربعين سنة ليس بالإمكان تصور أن عمان ستتحول من وضعها قبل السبعين إلى ما هي عليه الآن. التجربة الحالية تختلف، فالإنسان العماني الذي بنى هذه النهضة التي نراها الآن انطلق من الواقع الموضوعي لعام ١٩٧٠م حيث لا مدارس ولا طرقات ولا كهرباء ولا مياه، ولا مستشفيات ولا حتى مصدر غذاء، كانت الظروف قاسية جدا، ونتج عنها هجرة كثيفة من عمان، وأصبحت معزولة عن العالم الخارجي، الوضع الآن يختلف تماما، فالأوضاع مستقرة ومثالية.
التجربة اليابانية
وعرج الدكتور بعدها لقراءة التجربة اليابانية: زرت اليابان سبع عشرة مرة، وسكنت فيها ما مجموعه ثلاث سنوات ونصف، ليس بشكل دائم وإنما متقطع، أحيانا أمكثُ فيها سنةً، وأحياناً ستة أشهر وأحياناً شهر وهكذا، وفي رأيي هذه الطريقة أفضل لدراسة التجربة بمصداقيةٍ أكثر، فكلما ابتعدت فترة وترجع تكون الرؤية أفضل، وعلى رأي ابن الوردي: غبْ وزرْ غبًا تزدْ حبًا فمن ..... أكثر الترداد أقصاه الملل. تعرفت بشكل جيد على مدن اليابان، والمجتمع الياباني طبقاته وفئاته وحياته، وأنماط العيش، وبقيت عشر سنوات حتى أصدرت أول كتاب في الفترة الأولى، كنت أنشر بعض البحوث المطولة، أول بحث كان عن لبنان تطور الصناعي والاقتصاد في لبنان بعد الحرب، والثاني كان عن اليابان، مقارنة بين النهضة اليابانية والنهضة العربية، البحث الأول عن اليابان حولته إلى كتاب واسع، صدر في عام 1999م بعنوان: النهضة العربية والنهضة اليابانية تشابه المقدمات واختلاف النتائج، لاقى إقبالاً كبيراً، لدرجة أنه خلال أسبوع تم بيع أربعين ألف نسخة، وهو من إصدارات عالم المعرفة؛ وهذا الكتاب يعتبر ردا على السؤال الذي كان يطرحه دائما ولا يزال يطرحه إلى الآن شكيب أرسلان لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ فالكتاب أوجد نوعاً من الإجابة على هذا السؤال، وعلى خلفية هذا الكتاب تمت دعوتي لندوات كثيرة، منها الدعوة الأولى لسلطنة عُمان.
عقبة اللغة
يواصل ضاهر حديثه عن تجربة اليابان وعقبة اللغة: بخصوص اللغة كنت أستخدم اللغة الإنجليزية والفرنسية والعربية والروسية حاولت أتعلم اللغة اليابانية، إلا أن اللغة اليابانية والصينية من اللغات الصعبة جدا، لا أزعم أني أعرف اللغة اليابانية كتابةً وتحدثاً وقراءة، إنما تحدثاً بالقدر الذي يعينني على قضاء مصالحي، اللغة في اليابان ليست عائقا، فأغلب الوثائق الأساسية اليابانية مترجمة إلى الإنجليزية ومتوفرة سواء وثائق الإمبراطور ميجي والإصلاحات التي قام بها، أو وثائق الحرب العالمية الثانية، أو الوثائق التي نشرها الفرنسيون أو الروس. في اليابان نهضتان وليست نهضة واحدة؛ نهضة ما قبل الحرب ونهضة ما بعد الحرب، كتبت الكتاب الأول عن النهضة الأولى وكتبت الكتاب الثاني عن النهضة الثانية، ولا يزال العرب معجبين بالنهضة الأولى؛ علما أن النهضة الأساسية الثانية وليست الأولى، فالأولى كانت في خدمة العسكر، وفي خدمة التوسع والاستعمار الياباني والدولة الإمبريالية، احتلت أجزاء واسعة من الصين وكوريا وفتنام والمناطق المجاورة كلها، وتركت آثارا سلبية للغاية، خلفت ملايين القتلى، بينما النهضة الثانية بدون سلاح، تحولت النهضة لخدمة المجتمع والمواطن. كتبت الكتاب الثالث (كيف نظر العرب إلى اليابان) اليابان بعيون عربية، وهذا أيضا لاقى ترحيبا كبيرا، صدر ٢٠٠٥م حيث أنني فوجئت بحجم الوثائق العربية، التي استطعت الحصول عليها، الكتاب في ٤٠٠ صفحة وفيه وجهات نظر ورؤية العرب لليابان، والآن أعدّ كتاب وجهة نظر اليابان للعرب؛ أو بالأصح الاستعراب الياباني عن العالم العربي، بالوقت نفسه أنجزت للجامعة اللبنانية بحثا عن تاريخ اليابان الحديث، والآن قيد النشر وسيصدر قريباً.
نجاح النهضة
وحول أسس نجاح النهضة قال مسعود: نجاح أي نهضة أن لا تقوم على الاقتباس، والنقل عن الآخرين، وما قامت به عمان هو ممتاز، تجربة النهضة العمانية ليست منقولة عن أي تجربة أخرى، يحق لنا أن نستفيد من أي تجربة، ولكن لا ننقل، الأهم هو التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة، هو كيف تنمي الإنسان وفي نفس الوقت تنمي الإقتصاد، التنمية الإقتصادية تعني على سبيل المثال محاربة الفقر والجوع والتصحر وتأمين اقتصاد جيد مستمر، والتنمية البشرية هو أن لا يبقى أطفال بدون مدارس، أو بدون عناية طبية، أو بدون سكن أو عمل وغيره، ولا يحق أيضاً تبديد ثروة النفط، فهي ملك لأجيال متعاقبة، وهذا ما يسمى بالثروة المستدامة، ونلاحظ في أمريكا يدخرون نفطهم، ويستهلكون نفط العرب، قبل خمسين عاما سعر برميل النفط دولار واحد فقط، ووصل فيما بعد سعر البرميل إلى 150 دولارا، وعلى هذا فنحن بددنا ثروة كبيرة، ولم نستفد من المدخول الذي دخل إلينا، وبالتالي ما لم تنجح في التنمية المستدامة لن تكون هنالك حداثة، لأن كل شيء تبنيه بحاجة إلى صيانة وتطوير وتأهيل، وعندما تخرِّج الدولة ألف طالب جامعي، يجب أن تبحث لهم عن عمل، وإلا سيرتدون ضدها سلباً، وسيصبحون عبئاً على المجتمع.
تطرق الدكتور لأسباب نجاح التجربة اليابانية فقال: نهضة اليابان قامت قبل مائة وخمسين عاماً تقريباً، وتعتبر اليابان من أرقى الدول في الناحية التكنولوجية بالنسبة لجنوب شرق آسيا؛ أولاً بسبب قدم التجربة، وثانياً بسبب بناء الإنسان الياباني المؤهل للعمل في التكنولوجيا والإبداع، وثالثاً بسبب كثافة التوظيف المالي في التكنولوجيا. اليابان تكاد تكون أول دولة في العالم من حيث توظيف نسبة كبيرة بلغت 3.26% من الدخل القومي يوظف في مراكز الأبحاث العلمية، بينما عند العرب لا تتجاوز 0.014% وهذه النسبة اليابانية تمنح لأناس مدربين ويمتلكون الخبرة الجيدة، ولديهم علاقة بالتكنولوجيا والتطوير، من هنا تجد السلع اليابانية هي الأكثر طلباً في العالم والأكثر دقة وجودة، وأسعارها الآن الأغلى في العالم، واليابانيون لديهم أجيال من الحواسيب على سبيل المثال، وأجيال من الروبوت، والروبوت الياباني بإعتراف الأمريكيين والأوروبيين هي أكثر تطوراً من أي روبوت في العالم، ولديهم آلات حديثة متطورة جداً، وما يميزهم هو توظيف المال للإنسان وللتكنولوجيا، وهذا مردوده كبير جدا حتى اقتصادياً، فمثلاً حينما توظف كمية كبيرة من المال في اكتشاف دواء معين يشفي الناس، الفائدة المادية تكون خيالية بالإضافة إلى الجانب الإنساني، ولنضرب على ذلك مثلاً باكتشاف حبة دواء ضد مرض السرطان فكم سيكون مردودها؟ بالتأكيد سيكون الرقم عالياً جداً.
يتبع..
التركيز على الإنسان
ويتابع كنت أتابع تطور حركة المجتمع العماني، من سنة ١٩٧٠ إلى ٢٠٠٥م وكيف تبدل المجتمع العماني وإلى أي الاتجاهات مضى؟ وما هي فلسفة التحديث؟ ومن أي المبادئ انطلقت؟ مع دراسة فكر السلطان بعناية، ولماذا التركيز على الإنسان العماني؟ كنتُ أحلل هذه التوجهات، وانعكاساتها على الأرض، خلال الخطط الخمسية، وفي إطار الخطة للعام ٢٠٢٠ م؛ وهذا دليل على وجود برنامج عمل متكامل، يعتمد على النظرية والتطبيق؛ تصويب وتصحيح الأخطاء، وتدريجيا كنت ألاحظ المجتمع العماني يتبدل، ليس فقط في المدن بل أيضا في الأرياف البعيدة، الدولة اهتمت بربط المناطق بعضها ببعض، في البداية تم التركيز على إيقاف الحرب وإقامة السلام، وأعني السلم الأهلي بالدرجة الأولى، وذلك في بناء الجيش العماني القوي، وتجاوز الخلافات القبلية، والانخراط في بناء الدولة من واقع المواطنية وليس من واقع الانتماء القبلي أو الطائفي أو العرقي، مع الانفتاح على الأفكار الحديثة، والعلوم العصرية، وعلى التكنولوجيا، ودعوة القطاع الخاص إلى المشاركة في تطوير البلد، واعتماد سياسة الحياد الإيجابي بالعلاقات الخارجية، كذلك ترسيم الحدود مع دول الجوار، مع تقديم تنازلات لا بد منها أحياناً، وحدود ثابتة ليست موضع نزاعات مستقبلية؛ كل هذه العناصر تدل على وجود فكر سياسي، وهذا الفكر السياسي جاء من نتاج رجل متنور ألا وهو السلطان قابوس.
خصوصية التجربة
وينوه لكن بمشاركة عدد كبير من العمانيين في مواقع المسؤولية في الدولة، ومراكز الوزارات، ومشاريع الانتاج في القطاع الخاص، إضافة إلى توفير الجامعات والمدارس الحكومية، وتطور التعليم إلى مدارس خاصة وجامعات خاصة ومدارس تهتم باللغة الإنجليزية، وإرسال بعثات إلى الخارج، كما عملت الحكومة على الحد من الهجرة العمانية إلى الخارج، والدعوة إلى تشجيع الأجيال الشابة، من خلال إيجاد فرص العمل للجميع، وتبني سياسة التعمين لدرجة أن المجتمع العماني اليوم بنسبة ٨٥% يعملون، أنا برأيي من أبرز إيجابيات النهضة العمانية التي تمتاز بها عن باقي دول الخليج وجود كثافة يد عاملة، وقوى بشرية عمانية موجودة على الأرض في سوق العمل وفي العلاقات العامة وفي مراكز السياحة والخدمات والبنوك... الخ؛ في حين أن بعض الدول الأخرى في الخليج يغلب عليها طابع القوى العامله الوافدة، هذه الأشياء مجتمعة، تشكل خصوصية التجربة العمانية، وأنا أعتقد أن جلالة السلطان لديه خبرة واسعة في دراسة تجارب دول أخرى، لكنه لم يقتبس عن أي منها، كان يعمل بصمتٍ شديد، ويطلع على مبادئ التحديث الناجحة وعلى رسم الاستراتيجية التي تخص المجتمع العماني وطبيعته، وكيفية الانتقال من القبيلة إلى الدولة؛ وتهدئة النزعات الداخلية، وإشعار المواطن بمسؤوليته. في تصوري الشخصي أن أكثر تجربة عربية في مجال التحديث نجحت في بناء مواطن هي التجربة العمانية؛ فالمواطن العماني الآن مستقر غير متوتر، متفهم يعرف الأوضاع التي يمر بها بلده، لا توجد لديه حساسيات طائفية أو مذهبية، ومنفتح على الثفافات العصرية، مشارك بفاعلية بدون تبجح، متواضع وخلوق، هذه سمات أساسية مهمة للمستقبل؛ وأتمنى في السنوات القادمة أن تكون لي دراسة تُكْمِل ما بدأته في الدراسة الأولى؛ لأن كتابي تناول الحقبة الممتدة من 1970 إلى 2005م، والآن نحن أمام الذكرى الأربعين للنهضة العمانية، وعادةً سن الأربعين هو سن النضوج، فالانتقال الآن إلى بناء الدولة، كيفية تفاعلها وكيفية عملها، وكيف التعاطي مع البعض الآخر، كيفية حمل المسؤولية، ففي النهاية تجربة النهضة وُجِدت لتستمر، ولن تستمر إلإ بالتفاف القوى العمانية ذات المصلحة، وخلال أربعين سنة ليس بالإمكان تصور أن عمان ستتحول من وضعها قبل السبعين إلى ما هي عليه الآن. التجربة الحالية تختلف، فالإنسان العماني الذي بنى هذه النهضة التي نراها الآن انطلق من الواقع الموضوعي لعام ١٩٧٠م حيث لا مدارس ولا طرقات ولا كهرباء ولا مياه، ولا مستشفيات ولا حتى مصدر غذاء، كانت الظروف قاسية جدا، ونتج عنها هجرة كثيفة من عمان، وأصبحت معزولة عن العالم الخارجي، الوضع الآن يختلف تماما، فالأوضاع مستقرة ومثالية.
التجربة اليابانية
وعرج الدكتور بعدها لقراءة التجربة اليابانية: زرت اليابان سبع عشرة مرة، وسكنت فيها ما مجموعه ثلاث سنوات ونصف، ليس بشكل دائم وإنما متقطع، أحيانا أمكثُ فيها سنةً، وأحياناً ستة أشهر وأحياناً شهر وهكذا، وفي رأيي هذه الطريقة أفضل لدراسة التجربة بمصداقيةٍ أكثر، فكلما ابتعدت فترة وترجع تكون الرؤية أفضل، وعلى رأي ابن الوردي: غبْ وزرْ غبًا تزدْ حبًا فمن ..... أكثر الترداد أقصاه الملل. تعرفت بشكل جيد على مدن اليابان، والمجتمع الياباني طبقاته وفئاته وحياته، وأنماط العيش، وبقيت عشر سنوات حتى أصدرت أول كتاب في الفترة الأولى، كنت أنشر بعض البحوث المطولة، أول بحث كان عن لبنان تطور الصناعي والاقتصاد في لبنان بعد الحرب، والثاني كان عن اليابان، مقارنة بين النهضة اليابانية والنهضة العربية، البحث الأول عن اليابان حولته إلى كتاب واسع، صدر في عام 1999م بعنوان: النهضة العربية والنهضة اليابانية تشابه المقدمات واختلاف النتائج، لاقى إقبالاً كبيراً، لدرجة أنه خلال أسبوع تم بيع أربعين ألف نسخة، وهو من إصدارات عالم المعرفة؛ وهذا الكتاب يعتبر ردا على السؤال الذي كان يطرحه دائما ولا يزال يطرحه إلى الآن شكيب أرسلان لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ فالكتاب أوجد نوعاً من الإجابة على هذا السؤال، وعلى خلفية هذا الكتاب تمت دعوتي لندوات كثيرة، منها الدعوة الأولى لسلطنة عُمان.
عقبة اللغة
يواصل ضاهر حديثه عن تجربة اليابان وعقبة اللغة: بخصوص اللغة كنت أستخدم اللغة الإنجليزية والفرنسية والعربية والروسية حاولت أتعلم اللغة اليابانية، إلا أن اللغة اليابانية والصينية من اللغات الصعبة جدا، لا أزعم أني أعرف اللغة اليابانية كتابةً وتحدثاً وقراءة، إنما تحدثاً بالقدر الذي يعينني على قضاء مصالحي، اللغة في اليابان ليست عائقا، فأغلب الوثائق الأساسية اليابانية مترجمة إلى الإنجليزية ومتوفرة سواء وثائق الإمبراطور ميجي والإصلاحات التي قام بها، أو وثائق الحرب العالمية الثانية، أو الوثائق التي نشرها الفرنسيون أو الروس. في اليابان نهضتان وليست نهضة واحدة؛ نهضة ما قبل الحرب ونهضة ما بعد الحرب، كتبت الكتاب الأول عن النهضة الأولى وكتبت الكتاب الثاني عن النهضة الثانية، ولا يزال العرب معجبين بالنهضة الأولى؛ علما أن النهضة الأساسية الثانية وليست الأولى، فالأولى كانت في خدمة العسكر، وفي خدمة التوسع والاستعمار الياباني والدولة الإمبريالية، احتلت أجزاء واسعة من الصين وكوريا وفتنام والمناطق المجاورة كلها، وتركت آثارا سلبية للغاية، خلفت ملايين القتلى، بينما النهضة الثانية بدون سلاح، تحولت النهضة لخدمة المجتمع والمواطن. كتبت الكتاب الثالث (كيف نظر العرب إلى اليابان) اليابان بعيون عربية، وهذا أيضا لاقى ترحيبا كبيرا، صدر ٢٠٠٥م حيث أنني فوجئت بحجم الوثائق العربية، التي استطعت الحصول عليها، الكتاب في ٤٠٠ صفحة وفيه وجهات نظر ورؤية العرب لليابان، والآن أعدّ كتاب وجهة نظر اليابان للعرب؛ أو بالأصح الاستعراب الياباني عن العالم العربي، بالوقت نفسه أنجزت للجامعة اللبنانية بحثا عن تاريخ اليابان الحديث، والآن قيد النشر وسيصدر قريباً.
نجاح النهضة
وحول أسس نجاح النهضة قال مسعود: نجاح أي نهضة أن لا تقوم على الاقتباس، والنقل عن الآخرين، وما قامت به عمان هو ممتاز، تجربة النهضة العمانية ليست منقولة عن أي تجربة أخرى، يحق لنا أن نستفيد من أي تجربة، ولكن لا ننقل، الأهم هو التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة، هو كيف تنمي الإنسان وفي نفس الوقت تنمي الإقتصاد، التنمية الإقتصادية تعني على سبيل المثال محاربة الفقر والجوع والتصحر وتأمين اقتصاد جيد مستمر، والتنمية البشرية هو أن لا يبقى أطفال بدون مدارس، أو بدون عناية طبية، أو بدون سكن أو عمل وغيره، ولا يحق أيضاً تبديد ثروة النفط، فهي ملك لأجيال متعاقبة، وهذا ما يسمى بالثروة المستدامة، ونلاحظ في أمريكا يدخرون نفطهم، ويستهلكون نفط العرب، قبل خمسين عاما سعر برميل النفط دولار واحد فقط، ووصل فيما بعد سعر البرميل إلى 150 دولارا، وعلى هذا فنحن بددنا ثروة كبيرة، ولم نستفد من المدخول الذي دخل إلينا، وبالتالي ما لم تنجح في التنمية المستدامة لن تكون هنالك حداثة، لأن كل شيء تبنيه بحاجة إلى صيانة وتطوير وتأهيل، وعندما تخرِّج الدولة ألف طالب جامعي، يجب أن تبحث لهم عن عمل، وإلا سيرتدون ضدها سلباً، وسيصبحون عبئاً على المجتمع.
تطرق الدكتور لأسباب نجاح التجربة اليابانية فقال: نهضة اليابان قامت قبل مائة وخمسين عاماً تقريباً، وتعتبر اليابان من أرقى الدول في الناحية التكنولوجية بالنسبة لجنوب شرق آسيا؛ أولاً بسبب قدم التجربة، وثانياً بسبب بناء الإنسان الياباني المؤهل للعمل في التكنولوجيا والإبداع، وثالثاً بسبب كثافة التوظيف المالي في التكنولوجيا. اليابان تكاد تكون أول دولة في العالم من حيث توظيف نسبة كبيرة بلغت 3.26% من الدخل القومي يوظف في مراكز الأبحاث العلمية، بينما عند العرب لا تتجاوز 0.014% وهذه النسبة اليابانية تمنح لأناس مدربين ويمتلكون الخبرة الجيدة، ولديهم علاقة بالتكنولوجيا والتطوير، من هنا تجد السلع اليابانية هي الأكثر طلباً في العالم والأكثر دقة وجودة، وأسعارها الآن الأغلى في العالم، واليابانيون لديهم أجيال من الحواسيب على سبيل المثال، وأجيال من الروبوت، والروبوت الياباني بإعتراف الأمريكيين والأوروبيين هي أكثر تطوراً من أي روبوت في العالم، ولديهم آلات حديثة متطورة جداً، وما يميزهم هو توظيف المال للإنسان وللتكنولوجيا، وهذا مردوده كبير جدا حتى اقتصادياً، فمثلاً حينما توظف كمية كبيرة من المال في اكتشاف دواء معين يشفي الناس، الفائدة المادية تكون خيالية بالإضافة إلى الجانب الإنساني، ولنضرب على ذلك مثلاً باكتشاف حبة دواء ضد مرض السرطان فكم سيكون مردودها؟ بالتأكيد سيكون الرقم عالياً جداً.
يتبع..