التجربة العمانية أكثر تجربة عربية نجحت في بناء المواطن

    • التجربة العمانية أكثر تجربة عربية نجحت في بناء المواطن

      زار السلطنة الأسبوع الماضي الباحث والمؤرخ الدكتور مسعود ضاهر وهو الحاصل على الإجازة التعليمية ودبلوم الدراسات العليا في التاريخ من الجامعة اللبنانية، ودكتوراة الحلقة الثالثة ثم دكتوراة دولة في التاريخ الاجتماعي من السوربون جامعة باريس الأولى. وقد تشعب وطال الحوار معه حيث تحدث في البداية عن زياراته للسلطنة، وانطباعه عن التجربة العمانية قائلا: زرت كل المناطق العمانية تقريبا، قريةً قرية، فالزيارة الأولى للسلطنة كانت قبل عشر سنوات، وذلك للمشاركة في ندوةٍ أقامتها وزارة الإعلام عن الثقافة، قدمت من خلالها بحثاً عن اليابان والتجربة اليابانية، كانت ندوة ناجحة جدا ومثرية، وأذكر أيضاً الندوة الثقافية التي أقيمت في بيروت عن السلطنة، حيث أوكلت لي المهمة بصفتي الأمين العام المساعد للمؤرخين العرب، فاقترحت على وزارة الإعلام أن نقيم ندوة بصوتين عماني وعربي، فكان الصوت العماني للدكتورة سعاد سليمان بمشاركتها ببحثها عن التجربة العمانية، وأنا كنتُ الصوت الآخر غير العماني، فقدمتُ بحثاً عن تجربة عمان بين الاستمرارية والتغيير، كانت ندوةً كبيرة حضرها حشدٌ كبير، ولأول مرة تقام ندوة في لبنان عن عمان بهذا المستوى الرفيع، ووجد بحثي ترحيباً كبيراً من قبل الكثيرين، وطالبني العديد بتطويره إلى كتاب، وفعلا تطور البحث بعد زيارات متواصلة، عرجت من خلالها على مختلف المناطق العمانية وأجريت مقابلات مع شخصيات عمانية مختلفة، من الشعب وكبار المسؤولين، بهدف الاستئناس وليس التقرير الصحفي، واطلعت على وثائق السلطنة، خصوصاً تلك التي لها علاقة بالدرجة الأولى بالمراسيم السلطانية.

      التركيز على الإنسان

      ويتابع كنت أتابع تطور حركة المجتمع العماني، من سنة ١٩٧٠ إلى ٢٠٠٥م وكيف تبدل المجتمع العماني وإلى أي الاتجاهات مضى؟ وما هي فلسفة التحديث؟ ومن أي المبادئ انطلقت؟ مع دراسة فكر السلطان بعناية، ولماذا التركيز على الإنسان العماني؟ كنتُ أحلل هذه التوجهات، وانعكاساتها على الأرض، خلال الخطط الخمسية، وفي إطار الخطة للعام ٢٠٢٠ م؛ وهذا دليل على وجود برنامج عمل متكامل، يعتمد على النظرية والتطبيق؛ تصويب وتصحيح الأخطاء، وتدريجيا كنت ألاحظ المجتمع العماني يتبدل، ليس فقط في المدن بل أيضا في الأرياف البعيدة، الدولة اهتمت بربط المناطق بعضها ببعض، في البداية تم التركيز على إيقاف الحرب وإقامة السلام، وأعني السلم الأهلي بالدرجة الأولى، وذلك في بناء الجيش العماني القوي، وتجاوز الخلافات القبلية، والانخراط في بناء الدولة من واقع المواطنية وليس من واقع الانتماء القبلي أو الطائفي أو العرقي، مع الانفتاح على الأفكار الحديثة، والعلوم العصرية، وعلى التكنولوجيا، ودعوة القطاع الخاص إلى المشاركة في تطوير البلد، واعتماد سياسة الحياد الإيجابي بالعلاقات الخارجية، كذلك ترسيم الحدود مع دول الجوار، مع تقديم تنازلات لا بد منها أحياناً، وحدود ثابتة ليست موضع نزاعات مستقبلية؛ كل هذه العناصر تدل على وجود فكر سياسي، وهذا الفكر السياسي جاء من نتاج رجل متنور ألا وهو السلطان قابوس.

      خصوصية التجربة

      وينوه لكن بمشاركة عدد كبير من العمانيين في مواقع المسؤولية في الدولة، ومراكز الوزارات، ومشاريع الانتاج في القطاع الخاص، إضافة إلى توفير الجامعات والمدارس الحكومية، وتطور التعليم إلى مدارس خاصة وجامعات خاصة ومدارس تهتم باللغة الإنجليزية، وإرسال بعثات إلى الخارج، كما عملت الحكومة على الحد من الهجرة العمانية إلى الخارج، والدعوة إلى تشجيع الأجيال الشابة، من خلال إيجاد فرص العمل للجميع، وتبني سياسة التعمين لدرجة أن المجتمع العماني اليوم بنسبة ٨٥% يعملون، أنا برأيي من أبرز إيجابيات النهضة العمانية التي تمتاز بها عن باقي دول الخليج وجود كثافة يد عاملة، وقوى بشرية عمانية موجودة على الأرض في سوق العمل وفي العلاقات العامة وفي مراكز السياحة والخدمات والبنوك... الخ؛ في حين أن بعض الدول الأخرى في الخليج يغلب عليها طابع القوى العامله الوافدة، هذه الأشياء مجتمعة، تشكل خصوصية التجربة العمانية، وأنا أعتقد أن جلالة السلطان لديه خبرة واسعة في دراسة تجارب دول أخرى، لكنه لم يقتبس عن أي منها، كان يعمل بصمتٍ شديد، ويطلع على مبادئ التحديث الناجحة وعلى رسم الاستراتيجية التي تخص المجتمع العماني وطبيعته، وكيفية الانتقال من القبيلة إلى الدولة؛ وتهدئة النزعات الداخلية، وإشعار المواطن بمسؤوليته. في تصوري الشخصي أن أكثر تجربة عربية في مجال التحديث نجحت في بناء مواطن هي التجربة العمانية؛ فالمواطن العماني الآن مستقر غير متوتر، متفهم يعرف الأوضاع التي يمر بها بلده، لا توجد لديه حساسيات طائفية أو مذهبية، ومنفتح على الثفافات العصرية، مشارك بفاعلية بدون تبجح، متواضع وخلوق، هذه سمات أساسية مهمة للمستقبل؛ وأتمنى في السنوات القادمة أن تكون لي دراسة تُكْمِل ما بدأته في الدراسة الأولى؛ لأن كتابي تناول الحقبة الممتدة من 1970 إلى 2005م، والآن نحن أمام الذكرى الأربعين للنهضة العمانية، وعادةً سن الأربعين هو سن النضوج، فالانتقال الآن إلى بناء الدولة، كيفية تفاعلها وكيفية عملها، وكيف التعاطي مع البعض الآخر، كيفية حمل المسؤولية، ففي النهاية تجربة النهضة وُجِدت لتستمر، ولن تستمر إلإ بالتفاف القوى العمانية ذات المصلحة، وخلال أربعين سنة ليس بالإمكان تصور أن عمان ستتحول من وضعها قبل السبعين إلى ما هي عليه الآن. التجربة الحالية تختلف، فالإنسان العماني الذي بنى هذه النهضة التي نراها الآن انطلق من الواقع الموضوعي لعام ١٩٧٠م حيث لا مدارس ولا طرقات ولا كهرباء ولا مياه، ولا مستشفيات ولا حتى مصدر غذاء، كانت الظروف قاسية جدا، ونتج عنها هجرة كثيفة من عمان، وأصبحت معزولة عن العالم الخارجي، الوضع الآن يختلف تماما، فالأوضاع مستقرة ومثالية.

      التجربة اليابانية

      وعرج الدكتور بعدها لقراءة التجربة اليابانية: زرت اليابان سبع عشرة مرة، وسكنت فيها ما مجموعه ثلاث سنوات ونصف، ليس بشكل دائم وإنما متقطع، أحيانا أمكثُ فيها سنةً، وأحياناً ستة أشهر وأحياناً شهر وهكذا، وفي رأيي هذه الطريقة أفضل لدراسة التجربة بمصداقيةٍ أكثر، فكلما ابتعدت فترة وترجع تكون الرؤية أفضل، وعلى رأي ابن الوردي: غبْ وزرْ غبًا تزدْ حبًا فمن ..... أكثر الترداد أقصاه الملل. تعرفت بشكل جيد على مدن اليابان، والمجتمع الياباني طبقاته وفئاته وحياته، وأنماط العيش، وبقيت عشر سنوات حتى أصدرت أول كتاب في الفترة الأولى، كنت أنشر بعض البحوث المطولة، أول بحث كان عن لبنان تطور الصناعي والاقتصاد في لبنان بعد الحرب، والثاني كان عن اليابان، مقارنة بين النهضة اليابانية والنهضة العربية، البحث الأول عن اليابان حولته إلى كتاب واسع، صدر في عام 1999م بعنوان: النهضة العربية والنهضة اليابانية تشابه المقدمات واختلاف النتائج، لاقى إقبالاً كبيراً، لدرجة أنه خلال أسبوع تم بيع أربعين ألف نسخة، وهو من إصدارات عالم المعرفة؛ وهذا الكتاب يعتبر ردا على السؤال الذي كان يطرحه دائما ولا يزال يطرحه إلى الآن شكيب أرسلان لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ فالكتاب أوجد نوعاً من الإجابة على هذا السؤال، وعلى خلفية هذا الكتاب تمت دعوتي لندوات كثيرة، منها الدعوة الأولى لسلطنة عُمان.

      عقبة اللغة

      يواصل ضاهر حديثه عن تجربة اليابان وعقبة اللغة: بخصوص اللغة كنت أستخدم اللغة الإنجليزية والفرنسية والعربية والروسية حاولت أتعلم اللغة اليابانية، إلا أن اللغة اليابانية والصينية من اللغات الصعبة جدا، لا أزعم أني أعرف اللغة اليابانية كتابةً وتحدثاً وقراءة، إنما تحدثاً بالقدر الذي يعينني على قضاء مصالحي، اللغة في اليابان ليست عائقا، فأغلب الوثائق الأساسية اليابانية مترجمة إلى الإنجليزية ومتوفرة سواء وثائق الإمبراطور ميجي والإصلاحات التي قام بها، أو وثائق الحرب العالمية الثانية، أو الوثائق التي نشرها الفرنسيون أو الروس. في اليابان نهضتان وليست نهضة واحدة؛ نهضة ما قبل الحرب ونهضة ما بعد الحرب، كتبت الكتاب الأول عن النهضة الأولى وكتبت الكتاب الثاني عن النهضة الثانية، ولا يزال العرب معجبين بالنهضة الأولى؛ علما أن النهضة الأساسية الثانية وليست الأولى، فالأولى كانت في خدمة العسكر، وفي خدمة التوسع والاستعمار الياباني والدولة الإمبريالية، احتلت أجزاء واسعة من الصين وكوريا وفتنام والمناطق المجاورة كلها، وتركت آثارا سلبية للغاية، خلفت ملايين القتلى، بينما النهضة الثانية بدون سلاح، تحولت النهضة لخدمة المجتمع والمواطن. كتبت الكتاب الثالث (كيف نظر العرب إلى اليابان) اليابان بعيون عربية، وهذا أيضا لاقى ترحيبا كبيرا، صدر ٢٠٠٥م حيث أنني فوجئت بحجم الوثائق العربية، التي استطعت الحصول عليها، الكتاب في ٤٠٠ صفحة وفيه وجهات نظر ورؤية العرب لليابان، والآن أعدّ كتاب وجهة نظر اليابان للعرب؛ أو بالأصح الاستعراب الياباني عن العالم العربي، بالوقت نفسه أنجزت للجامعة اللبنانية بحثا عن تاريخ اليابان الحديث، والآن قيد النشر وسيصدر قريباً.

      نجاح النهضة

      وحول أسس نجاح النهضة قال مسعود: نجاح أي نهضة أن لا تقوم على الاقتباس، والنقل عن الآخرين، وما قامت به عمان هو ممتاز، تجربة النهضة العمانية ليست منقولة عن أي تجربة أخرى، يحق لنا أن نستفيد من أي تجربة، ولكن لا ننقل، الأهم هو التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة، هو كيف تنمي الإنسان وفي نفس الوقت تنمي الإقتصاد، التنمية الإقتصادية تعني على سبيل المثال محاربة الفقر والجوع والتصحر وتأمين اقتصاد جيد مستمر، والتنمية البشرية هو أن لا يبقى أطفال بدون مدارس، أو بدون عناية طبية، أو بدون سكن أو عمل وغيره، ولا يحق أيضاً تبديد ثروة النفط، فهي ملك لأجيال متعاقبة، وهذا ما يسمى بالثروة المستدامة، ونلاحظ في أمريكا يدخرون نفطهم، ويستهلكون نفط العرب، قبل خمسين عاما سعر برميل النفط دولار واحد فقط، ووصل فيما بعد سعر البرميل إلى 150 دولارا، وعلى هذا فنحن بددنا ثروة كبيرة، ولم نستفد من المدخول الذي دخل إلينا، وبالتالي ما لم تنجح في التنمية المستدامة لن تكون هنالك حداثة، لأن كل شيء تبنيه بحاجة إلى صيانة وتطوير وتأهيل، وعندما تخرِّج الدولة ألف طالب جامعي، يجب أن تبحث لهم عن عمل، وإلا سيرتدون ضدها سلباً، وسيصبحون عبئاً على المجتمع.
      تطرق الدكتور لأسباب نجاح التجربة اليابانية فقال: نهضة اليابان قامت قبل مائة وخمسين عاماً تقريباً، وتعتبر اليابان من أرقى الدول في الناحية التكنولوجية بالنسبة لجنوب شرق آسيا؛ أولاً بسبب قدم التجربة، وثانياً بسبب بناء الإنسان الياباني المؤهل للعمل في التكنولوجيا والإبداع، وثالثاً بسبب كثافة التوظيف المالي في التكنولوجيا. اليابان تكاد تكون أول دولة في العالم من حيث توظيف نسبة كبيرة بلغت 3.26% من الدخل القومي يوظف في مراكز الأبحاث العلمية، بينما عند العرب لا تتجاوز 0.014% وهذه النسبة اليابانية تمنح لأناس مدربين ويمتلكون الخبرة الجيدة، ولديهم علاقة بالتكنولوجيا والتطوير، من هنا تجد السلع اليابانية هي الأكثر طلباً في العالم والأكثر دقة وجودة، وأسعارها الآن الأغلى في العالم، واليابانيون لديهم أجيال من الحواسيب على سبيل المثال، وأجيال من الروبوت، والروبوت الياباني بإعتراف الأمريكيين والأوروبيين هي أكثر تطوراً من أي روبوت في العالم، ولديهم آلات حديثة متطورة جداً، وما يميزهم هو توظيف المال للإنسان وللتكنولوجيا، وهذا مردوده كبير جدا حتى اقتصادياً، فمثلاً حينما توظف كمية كبيرة من المال في اكتشاف دواء معين يشفي الناس، الفائدة المادية تكون خيالية بالإضافة إلى الجانب الإنساني، ولنضرب على ذلك مثلاً باكتشاف حبة دواء ضد مرض السرطان فكم سيكون مردودها؟ بالتأكيد سيكون الرقم عالياً جداً.

      يتبع..
    • برنامج لدعم الأطفال

      وطبقا لمتحدثنا " حسب إحصاء منظمة اليونيسكو مطلع الألفية الثالثة، أجرت اليونيسكو عدة اختبارات للطلبة، تبين أن الطلبة اليابانيين هم الأكثر تطوراً في مجال الرياضيات والفيزياء، وفي السنة الماضية اشتهر أربعة علماء في مجال الفيزياء، ثلاثة يابانيين، وواحد أمريكي من أصل ياباني، فاليابانيون لديهم برنامج لدعم الأطفال المتميزين، ولديهم جامعة معروفة اسمها جامعة شوكوبا، وهي للطلبة المتميزين ممن يمتلكون قدرات أكثر ممن سواهم، وفي احد الأيام تحدثت الصحافة اليابانية كثيراً عن طالب عمره 11 سنة اكتشف نظرية جديدة في الرياضيات، ومُنح على إثرها درجة الدكتوراة، فهم يهتمون كثيراً بهذا الجانب، ويلاحظ كل من يزور اليابان، لا تميز في الإدارة أبداً، أصحاب الكفاءة أولاً، ولا يوجد شيء آخر سوى الكفاءة، ولا يستطيع أحدٌ أن يسلب المواطن الياباني حقه الطبيعي في التوظيف والمكان الذي يستحقه، لا تجد مواطنا يابانيا يتذمر بسبب عدم توفر فرص العمل، فالعمل مؤمّن إن لم يكن في الدولة ففي الشركات والمصانع، فهناك تعاون تام بين الشركات اليابانية، ولا تتنافس مع بعضها لدرجة أن تدمر بعضها الآخر، بل تتبادل الشركات والجامعات اليابانية الخبرات والانتشار والمصالح المشتركة".وعن الفرق بين التجربة اليابانية والتجربة الغربية أجاب الدكتور: التجارب الغربية تجارب حقيقية، لكنها فصلت الروح عن المادة، وتغليب الجانب المادي على الجانب الروحي، بينما اليابان ركزت كثيراً على الجانب الروحي، وأقامت توازناً كبيراً بين التراث والحداثة، دون تغليب أحدهما على الآخر.

      الحقوا بالغرب وتجاوزوه

      وفي بدايات النهضة الحديثة أدرك الإمبراطور الياباني ميجي رائد النهضة اليابانية أن الغرب سبق اليابان كثيراً، وبالرغم من صغر سنه إلا أنه كان ذكياً، فقد استلم الحكم وهو في الخامسة عشرة من العمر،رفع الشعار الأول للنهضة اليابانية: (الحقوا بالغرب وتجاوزوه) فذهب اليابانيون إلى الغرب بعقلية التلميذ كي يستفيدوا من نهضتهم وتطورهم؛ وهذا ما قاله المفكر الاسلامي الشهير الجزائري مالك بن نبي: اليابان ذهبت إلى الغرب بذهنية التلميذ، والعرب ذهبوا للغرب بذهنية الزبون. وبالتالي اليابان ذهبت بذهنية التلميذ الذي يسبق معلمه، وبعد أن امتلكوا التكنولوجيا الغربية رفع الإمبراطور شعار: التكنولوجيا غربية لكن الروح يابانية. بمعنى يجب أن نمنح هذه التكنولوجيا روحاً يابانية، ومن القصص الطريفة التي تعتبر من أجمل القصص في تاريخ اليابان، أنهم أرسلوا بعثات كثيرة إلى أمريكا والغرب، وحتى مطلع 1973م ذهبت معظم أركان الإدارة اليابانية إلى الغرب واطلعوا على الإدارات، ولم يكن في اليابان وزارات ولا بنوك ولا مؤسسات حديثة إطلاقاً، ولم يكونوا يعرفون أي شيء عن الغرب، حتى هذا الفيزكووا الشهير رائد النهضة اليابانية، يروي فوكوزاوا يوكيشي عن رحلته في باريس أنه أخذ معه أكياسا كثيرة من الأرز، والقناديل التي تضاء بالغاز، وعندما وصلوا إلى باريس ومنطقة بارساي الشهيرة، وجدوا الكهرباء والأنوار، والفنادق، فذهب رئيس البعثة إلى أحد الفنادق يطلب منهم حجز أكثر من فندق ظناً منه أنه لا يوجد فندق يتسع لأكثر من أربعين شخصا، فخصصوا لهم جناحاً داخل الفندق؛ ومن القصص الأخرى التي تبين اهتمام الإمبراطور بدراسة اليابانيين، تم ابتعاث طالب ياباني إلى ألمانيا لدراسة الهندسة، فأرسل المسؤول عنه رسالة إلى الأمبراطور يخبره فيها عن تدهور صحة هذا الطالب؛ كونه لا يصرف من نقوده على الأكل والشرب، وإنما يشتري بها مولدات كهربائية قديمة ليقوم بتفكيكها وإعادة تشغيلها، فقال له أعطهِ ما يشاء من المال، وأريد تقارير عنه باستمرار؛ حتى يظل يهتم به، وحينما رجع الطالب إلى اليابان، طلب الإمبراطور مقابلته، فاستأذن من الإمبراطور طالباً منه فسحةً من الوقت حتى يدعوه لزيارة نتاج دراسته العملية، فأذن له بالمدة التي يطلبها، وبقي حوالي سنتين، ودعا الإمبراطور إلى أول مولدات اخترعها ياباني، وهي موجودة الآن في المتحف بطوكيو، حيث أنه مولد كبير ومولدات صغيرة بجانبه، وعندما دخل الإمبراطور قام بتشغيل هذه المولدات، فقال الإمبراطور؟ هذه أجمل موسيقى سمعتها في حياتي.

      روح الجماعة

      وعن أهم سمة في اليابان يقول ضاهر: عندما تتكلم في اليابان لا تتكلم على فرد، ليس هناك فرد بمعنى الفرد في اليابان، بل توجد مجموعة، يتسمون بروح الجماعة، فهم على الصعيد الفردي ليسوا مبدعين، بل يحتضنهم نظام داخل مجموعة في مؤسسة، فالقرارات تصدر من الأسفل إلى الأعلى، وليس العكس؛ تبدأ من الفرق الصغيرة، وتصعد إلى الأعلى تدريجياً، يتم من خلالها التصحيح والتعديل في كل مرحلة، لتأتي الأوامر بتنفيذه أخيراً. روح الجماعة لها نتائج إيجابية كبيرة جداً، المشكلة في دول العالم الثالث والدول العربية، أننا نمتلك أفرادا عباقرة لكن ليس لدينا فرق عمل، لا أحد يعمل مع الآخر، حتى المثقفين العرب لا يقرأون لبعضهم، بينما الدول الآسيوية جميعها تعمل بروح الجماعة أولاً، في اليابان تصبح المؤسسة هي عائلة الفرد، يرتدي ملابس الشركة دائماً، وإذا لم يرتديها يضع شعارها في ملابسه، ويمتلك بطاقة من الشركة تمكنه من الاستفادة من كل الفنادق والمطاعم ومحلات اللباس والأحذية والحضانة والبنوك التابعة للشركة التي يعمل بها، والشركة هناك كلما نجحت تؤسس شركة جديدة، والعامل ليس أجيراً بل صاحب أسهم، وحتى حينما يقع خلاف بين العامل والشركة لا يعوضونه مبالغ؛ بل يمنحونه أسهما، فهم لا يحملون نقوداً في جيوبهم، يكتفون بالبطاقات، كل أموال اليابانيين موظفة في البنوك والشركات وتديرها مؤسسات عامة، لا توجد أموال فردية، إلا في الاستهلاك الشخصي فقط، أما المشاريع كلها خدمات حسب الأسهم.
      وتحدث مسعود عن تأثير الأزمة العالمية في اليابان إذ يقول: الاقتصاد الياباني تأثر كثيراً بالأزمة، كون الاقتصاد الياباني معولما، وموجودا في كل أنحاء العالم، وحينما تكون الأزمة عالمية لابد أن تدفع الثمن باهضاً، ويبدو أن الصين أزمتها أقل بكثير من أزمة اليابان، وربما لا تذكر، قياساً إلى أزمة الولايات المتحدة واليابان، فشركة مثل شركة تويوتا خسرت 10 مليارات دولار هذه السنة، بداية هذا الشهر وصلت نسبة الباحثين عن عمل إلى 4.2 % لأول مرة في تاريخ اليابان لأكثر من ثلاثين سنة، وهذه طبعاً تنعكس على الخدمات المقدمة للمواطنين، أصبحت شركات يابانية مهددة بالاغلاق، إلا أن حسنات النظام الياباني لا يسمحون لشركات من الخارج تدخل اليابان، وهذا يعني أن الشركات تتناوب الشراء مع بعضها البعض، والصين قد تكون المستفيد الأكبر من هذه الأزمة، وهي من الدول الأكثر محافظة على نسبة نمو عالية، كون سلعتها رخيصة وبمقدور كل الناس شراءها؛ ومع ذلك لا تزال الصين تصر على ضرورة محاكمة المتسببين للأزمة، والأمريكيون يرفضون المحاكمة؛ فيبدو أن هناك أمورا مخفية، فقد يكون جزء من الأزمة مفتعلا، ولا يريدون الكشف عن هذا الجانب. لا بد أن تكون هنالك مراقبة، فكيف يسمح لفرد أن يتحكم بستين مليار دولار؟ يوجد فساد وتلاعب بالأسهم والتجارة والمضاربة، نظام الرأسمالي بحاجة إلى ضوابط وإلا سينهار على رؤوس أصحابه، كما انهار سنة ١٩٢٩م.

      أوجه الشبه

      وحول أوجه الشبه بين السلطنة ولبنان في التنمية أجاب الدكتور: الفارق كبير، قد توجد أوجه شبه بسيطة، لكن جوانب الاختلاف أكبر بكثير، في سلطنة عمان توجد دولة مركزية، وقرارات تنفذ، ومواطن يحترم القانون، ومسؤولون تحت الرقابة والمساءلة، أما لبنان فيصدق فيها المثل الشعبي القائل: (السمكة لا تفسد إلا من رأسها) فغالبية من على رأس الهرم يستخدم مؤسسات الدولة لمصالحه الشخصية، للإثراء غير المشروع، للسمسرة وبيع أملاك الدولة، وهذه كارثة حقيقية، الفساد هو الشعار الأساسي في الانتخابات الأخيرة، وهو نظام انتخاب فاسد، باعتبار أنه يقوم على الزعامات الطائفية والمذهبية، يوجد لدينا الآن على الأقل مائة نائب معروفة أسماؤهم قبل الانتخابات، وهذه لا يخطئها أحد، هنالك فساد ورشوة وشراء أصوات، وتلاعب، والاستقرار الأمني مضطرب في لبنان فقد عاشت الدولة ١٥ سنة حربا أهلية، ولم تخرج نهائيا من الحروب الأهلية، فبعد الحرب جاءت عملية التحرير ١٩٨٩م، ثم أتت هزيمة إسرائيل سنة ٢٠٠٠م ثم كررت إسرائيل ضرب لبنان في ٢٠٠٦م قصفت قسما كبيرا من البنية التحتية، وباستمرار هناك عمليات اعتداء على الأراضي والأجواء اللبنانية، لم يخرج لبنان نهائيا من دائرة الحرب، لكن قدرة اللبنانيين على التكيف وقدرة اللبنانيين على الإبداع الفردي هو الذي يساعد على تهدئة الأوضاع الاقتصادية، لدينا إبداع فردي ممتاز، تنعدم فيه روح الجماعة، لا توجد مسؤولية جماعية، وبالتالي لا توجد قدرة على بناء الدولة على أسس سليمة، وهذا يلام عليه اللبنانيون، وعلى الزعماء أن يبنوا وحدة داخلية ، ويعززوا فيها العيش الكريم، ويمنعوا الصدامات الطائفية، ويمنعوا التشنج المذهبي، ويمنعوا الفساد، ويحلوا مشاكل الشعب، فهنالك مشاكل كثيرة في الكهرباء والمياه، مياه لبنان تذهب للبحر هدرا، وأهم سلعة الآن المياه فهي مثل النفط وأكثر، اللبناني على الصعيد الفردي ناجح، لكنه فاشل على مستوى بناء الدولة والمؤسسات، أنا برأيي الفرق كبير بين لبنان وعمان، عمان نجحت في بناء الدولة ومؤسساتها، نأمل أن يستفيد لبنان من تجربة عمان. لا يوجد في لبنان حزب وطني جامع، حتى الأحزاب الموجودة قبل الحرب ذات شمولية وجامعة، قومية ناصرية بعثية اشتراكية تراجعت بعد الحرب وأصبحت الأحزاب المسيطرة ذات طابع طائفي ومذهبي، السنة لهم حزب كبير والشيعة لهم حزب كبير، والدروز لهم حزب كبير، والأرمن لهم حزب كبير، وبالتالي هذه التركيبة الاجتماعية، بحاجة إلى أحزاب وطنية تتعدى الطوائف، والدولة لا بد أن يكون لها دور في منع الأحزاب الطائفية، بأن تصدر تشريعات تمنع إعطاء ترخيص لحزب إلا إذا ثبت أن هنالك نسبة من أعضائه تجمع كل الطوائف مثلا، هذه تساعد على الانصهار الوطني، أيضا قانون الانتخاب يساعد على الانصهار الوطني، أيضا الإدارة تساعد على الانصهار الوطني، إعطاء الكفاءة حقها والمساءلة والمراقبة والشفافية والإنماء المتوازن، والتوازن بين القطاع العام والقطاع الخاص، ودعم التعليم الرسمي، كل هذه جاءت مع مبادئ اتفاق الطائف لكنها لم تطبق، ما زال اللبناني جزءا من طائفة وليس جزءا من دولة ليس مواطنا بالمعنى السليم للكلمة، المطلوب تحويل اللبناني إلى مواطن، وليس فردا في طائفة. أما بالنسبة للاقتصاد اللبناني فهو في جانب منه جيد، باعتبار أن الاقتصاد يقوم على القطاع الخاص، فالقطاع العام ضعيف، مثلا قطاع الكهرباء في حالة جفاف وكلف مليارات الدولارات ولم يتم حل المشكلة، فهي لا تصل بشكل جيد إلى كل المنازل، أيضا قطاع المياه، وقطاع النقل وغيره، لا توجد لدينا مشاريع تقوم بها الدولة. بينما القطاع الخاص لديه ديناميكية وحركة مستمرة، واللبناني بطبيعته تاجر يعرف فنون التجارة، وأيضا القطاع اللبناني مدعوم من المغتربين، فهو البلد الوحيد في العالم عدد السكان المواطنين في الخارج ضعفي عدد الداخل، نادرا ما تجد عائلة لبنانية ليس لها مهاجر يرسل لها الأموال والمساعدات، أيضا المساعدات التي جاءتنا من الدول العربية، ومن المؤسسات الدولية وعدد من الشركات، وعندنا أيضا قطاع خاص قوي في مجال التعليم، لدينا ٤٣ جامعة خاصة معترف بها دوليا وتسع جامعات حتى الآن غير معترف بها، ولدينا أيضا قطاع نشيط في مجال الإعلام، فنحن نمتلك إعلاما من أهم المراكز في الدول العربية، سواء الإذاعة أو التلفزيون أو الصحافة أو الطباعة وغيرها، قطاع السياحة نشيط جدا وقوي في الفنادق والرحلات والمطاعم، الزراعة كذلك لا بأس بها فلدينا مجموعة من الفواكه والحمضيات والخضار ولكن أراضي لبنان صغيرة، قسم منها يستهلك داخليا، وقسم يصدر إلى الخارج، ولبنان من البلدان الغالية، السياحة غالية وكذلك الفواكه والخضار، السلع التي تأتي من الخارج تكون في متناول المواطنين أكثر.

    • صندوق المجد
      ** يمارس التدريس في الجامعة اللبنانية منذ عام 1973م، وقد عيِّن في عام 1996م عضواً في المجلس العلمي الاستشاري للجامعة اللبنانية عن كلية الآداب والعلوم الإنسانية. ودعي أستاذاً زائراً لعدد من المرات إلى معهد الاقتصاديات المتطورة وجامعة طوكيو، بدعوة من (Japan Foundation). كما دعي أيضاً أستاذاً زائراً، لمدة ستة أشهر، إلى جامعة جورج تاون في العاصمة الأمريكية واشنطن بمنحة بحثية من مؤسسة فولبرايت الأمريكية.
      ** انتدب خبيراً للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة عام 2004م. وهو يتقن إلى جانب اللغة العربية، الفرنسية والإنجليزية، وملم بدرجة جيدة بالروسية، وعلى نحو بسيط باليابانية؛ مُنح الدكتور ضاهر جائزة عبد الحميد شومان للعلماء العرب الشبان في الأردن عام 1983م، وتم اختياره عضواً في لجنة التحكيم للجائزة نفسها لأعوام 1992م و1994م و2000م؛ وعضواً في لجنة تحكيم جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية لعام 1999م.
      ** نال وسام المؤرخ العربي عام 1993م، ثم وسام التاريخ العربي عام 1996م من اتحاد المؤرخين العرب. كما اختير خبيراً في مجموعة «الحكم الصالح» بإشراف البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة للعام 2004
      ** ومن أبرز مؤلفاته بالعربية: «تاريخ لبنان الاجتماعي 1914-1926» ( 1974م)، و«لبنان، الاستقلال والميثاق والصيغة» (1977م)، و«الجذور التاريخية للمسألة الطائفية اللبنانية 1697-1861» (1981م)، و«الجذور التاريخية للمسألة الزراعية في لبنان 1900-1950» (1986م)، و«المشرق العربي المعاصر: من البداوة إلى الدولة الحديثة» (1986م)، و«الهجرة اللبنانية إلى مصر، هجرة الشوام» ( 1986م)، و«الانتفاضات اللبنانية ضد النظام المقاطعجي» (1988م)، و«مجابهة الغزو الثقافي الإمبريالي الصهيوني للمشرق العربي، دراسة في الثقافة المقاومة» (1989م)، و«الدولة والمجتمع في المشرق العربي 1840-1990» (1991م)، و«مشكلات بناء الدولة الحديثة في الوطن العربي» (1994م)، و«النهضة العربية والنهضة اليابانية: تشابه المقدمات واختلاف النتائج» (1999م)؛ وهو الكتاب الذي نال عليه جائزة أفضل كتاب عربي في مجال الإنسانيات من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي عن العام 2000م، و«النهضة اليابانية المعاصرة: الدروس المستفادة عربياً» (2002م).
      ** له ثلاثة أبحاث بالإنجليزية، هي: Socio-Economic Changes and Civil War in Lebanon, Modernization in Egypt and Japan in the 19th Century, and Continuity and Change in Japanese Modernization, 1945-1998


      تم تحرير الموضوع 1 مرة, آخر مرة بواسطة رقيق المشاعر ().


    • السلام عليكم ورحمة الله

      اخي قرأت الموضوع ولكني لم استكمل بقية النص

      فيه اشياء صحيحه ومنيه على واقع من الحياه العمانيه

      واتمنى ان يكون الانسان العماني على وعي واطلاع بأمور الحياه الحاضرن والمسقبله ..

      فالحياه لا تتوقف عند زمن معين

      ولكني ارى ان كثيرا من الشعب العماني قد توقف به الزمن الى سنوات ماضيه ولم يحاول ان يطور افكاره وعقليته كما يجب

      ولا اقصد التنقيص من شأنهم لا سمح الله ولكن حبهم للماضي يشدهم اكثر من الحاضر والمستقبل

      ربما اكون مخطئه اخي ففي النهايه انا بشر مثلكم ولي اخطائي وسلبياتي


      تمنياتي للجميع بالخير والتوفيق


      واشكرك اخي رقيق المشاعر على مقالتك الثريه
      .
      .
      .
      :Pعذرا يا حب ,, لست انا من تبحث عنه
    • الموضوع له عدة جوانب مفيده نتعلمها من الدراسه التي قام بها الاستاذ الدكتور مسعود مظاهر عن التجربه العمانيه ولتعم الفائده ارى تثبيت الموضوع ,,

      تحيتي ,,
      اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك الوطن ليس فـندقاً نغادره حين تسوء خدمته ولا مطعماً نذمه حين لا يروق لنا الطعام الذي يقدمه الوطــــــن هو الشرف والعز والإنتماء والــــــولاء الوطن إن لم يكن دنيانا فلا خير في عيش بلا وطن