العولمة .. ومسألة الهوية والخصوصية

    • العولمة .. ومسألة الهوية والخصوصية

      الوطن -

      عبد الله بن علي العليان:



      يدور النقاش كثيرا حول صعود الهويات الإنسانية في مواجهة زحف العولمة الجارف ، وهل باستطاعة الشعوب الأضعف تكنولوجيا الصمود في وجه تأثير العولمة التي تقودها الدول المتقدمة، وتملك من وسائل الاختراق إعلاميا ما يجعل الآخر الأضعف غير قادر على المواجهة المتكافئة في هذا المجال ، كما أن الطرف الأضعف لا يستطيع أن يحقق ذاته من خلال رؤيته التاريخية الخاصة للحياة ، بكل أبعادها في التعاطي مع الآخرين ، أخذا وعطاء في علاقات عادلة وإيجابية لبناء الصرح الإنساني وللحفاظ على الحضارة البشرية .

      فالثقافات ـ ومنها الهوية بناء متكامل في أبعاد الزمن وفي استمرارها وهي متساوية في مواقعها الأفقية ، وفي أبعادها المكانية، ولا تفاضل رأسيا بينها وهي كذلك لا تقبل المقارنة لخصوصيتها وليست هناك ثقافة عليا وثقافة دنيا .

      لكن الغرب الذي أخذ مكان الصدارة وتفرد حضاريا وعلميا في عصرنا الراهن ،بدأ يطرح مقولة ثقافة المركز وثقافة الأطراف ، وأن ثقافة المركز هي الثقافة العلم والحضارة والتقنية ومن ثم اكتساح الثقافات الأخرى المغايرة فعمل كما قال د. محمد عابد الجابري على مبدأ "يجب إخضاع النفوس بعد إخضاع الأبدان": إخضاع الأبدان يتم بالمدفع ؛ أما إخضاع النفوس فسلاحه التعليم والثقافة .

      كان ذلك بالأمس ، أما اليوم في أواخر القرن العشرين فالاتصال من دون "المدفع" ممكن " و"إخضاع النفوس " عن بعد ، مسافة بعيدة أصبح أمرا ميسورا جدا بفضل التقدم الهائل في وسائل الاتصال السمعية والبصرية؛ وإذا انقلب الوضع انقلاباً: لم يعد إخضاع الأبدان شرطا في إخضاع النفوس بل على العكس لقد غدا إخضاع النفوس طريقا لإخضاع الأبدان ؛ لقد كان القدماء من الفلاسفة يعرفون البدن بأنه " آلة تستخدمها " وإذا إخضاع النفس يستتبع حتما إخضاع آلتها: تلك حقيقة " الاختراق الثقافي " في عصرنا الراهن وذلك هو هدفه.

      هذا الاختراق المحمل أيديولوجيا العولمة التي نناقش أبعادها ومخاطرها على الهوية الثقافية ، أصبحت حقيقة واقعة وليست أوهاما كما يدعي بعض المثقفين العرب ؛ ذلك أن العولمة من خلال مفهومها الذي وضعـه القائمــون على تطبيقاتها ، يطرحون استراتيجية تعميم نموذج العولمة عالميا من خلال تقنية الوسائط الإعلامية التكنولوجية الهائلة ، وأنها تنتهي عند هذا النموذج ، فالحضارة الحديثة مرتبطة بآليات السوق ، وبالعرض والطلب ، هي حضارة بسيطة لا تعرف تركيبة الإنسان وتنكر مقدرته على التجاوز فهو إنسان ذو بعد واحد (يعيش في مجتمعات أحادية الخط ) وعقله عقل أداتي (يغرق في التفاصيل والإجراءات ولا يمكنه إدراك الأنماط التاريخية أو تطوير وعيه التاريخي ) فالسوق والمصنع بآلياتهما البسيطة يتطلبان إنسانا طبيعيا ماديا بسيطا ، ليست له علاقة بالإنسان الإنسان ، والإنسان المركب ، والمجتمعات الاستهلاكية التي لا تحكم إلا آليات العرض والطلب والاستهلاك والإنتاج ، تزعم أنها قادرة على إشباع جميع رغبات الإنسان المادية والروحية من خلال مؤسساتها الإنتاجية والتسويقية والترويجية .

      هذه النزعة التي يسخرها الغرب لتحطيم الهويات الأخرى ـ ان صحت هذه المقولة ـ ليست خالية من الأيديولوجيا المضادة للثقافات الإنسانية، فهي تبرر هذا الاكتساح العملاق بمفاهيم حديثة وجذابة مثل التقدم الاقتصادي والرخاء المادي والديمقراطية والليبرالية وغيره ، لكن البعض يشكك في هذه المقولات ويعتبرها مجرد طرح فضفاض ومغاير للواقع الذي تستهدف هذه العولمة وما سبقها من مفاهيم في هذا السياق.

      وهذه هي المشكلة التي ستواجهها الإنسانية في القرن المقبل إذا ما فرضت العولمة كبديل للتنوع الثقافي وعملت على اكتساح الهوية الحضارية للشعوب ذلك ان الاتجاهات والمعايير المقبلة سائرة في اتجاه التأثير السلبي على الهوية والسيادة معا، وأول ما يثير الانتباه عند التأمل في موقف الغرب من هويات الشعوب هو جمعه بين متناقضين ، فهو من جهة شديد الاعتزاز بهويته حريص عليها وهو من جهة ثانية رافض للاعتراف بالهويات الوطنية لشعوب العالم ، لإحساسه بأن العولمة من شأنها ان تؤدي إلى مزيد من الوعي بالخصوصيات الثقافية والحضارية.

      والغريب أنه خلال فترة الحرب الباردة والصراع على النفوذ والمصالح بين الدول الكبرى ، لم نسمع إلا بمقولات التفاعل الثقافي والتنوع الحضاري والتسامح الفكري والديني ، وإشاعة روح التواصل بين الثقافات باعتبارها مكونات للتفاهم والتعاون وهذا تم في فترة العالم المنقسم ، أما الآن وبعد سقوط الحواجز وإزالة الحوائط وبروز قوة عالمية واحدة مهيمنة لم نعد نسمع بالكلمات اللطيفة مثل [ التفاعل - التواصل - التسامح - التعدد الثقافي -التنوع الحضاري ] فقط كلمات مثل: افتحوا أبواكم أيها العرب ، وادخلوا عالم العولمة ، ليس لكم من خيار ، وإذا ما بقيتم في ترددكم ومساجلاتكم فإنكم ستكونون كالحيوان الملقى على قارعة الطريق ؛ تلك هي الكلمات الجديدة المتداولة في عالم اليوم الذي يفرضه العالم الجديد الذي يمتطي قطار العولمة - الذي يقولون عنه - أنه لا قطار غيره يتحرك ، وهذا القول التبشيري الذي يطرحونه هدفه إلغاء التعددية الثقافية لصالح الوحدية وليس صحيحا أيضا أن فكرة الاختراق الثقافي الذي تسعى إليه بعض القوى في عصر العولمة والكوكبة ، أوهاماً في عقول بعض دعاة الخصوصية الثقافية ذلك أن فرنسا نفسها وهي جزء من المنظومة الغربية الهامة تطلق التحذيرات من الغزو الأميركي على الخصوصية الثقافية لفرنسا ، على الرغم من أنهم ينتمون إلى قيم ثقافية واحدة ، وهذا ما عبر عنه الشاعر الفرنسي [ اندريه فيلتير ] عندما قال " نعم هناك إمبريالية ثقافية أميركية طبعاً هذه الليبرالية اقتصادية وسياسية ؛ ولكن ما يهمنا هو الميدان الثقافي لاسيما أنه الهدف الذي يدور حوله الصراع في العقد الأخير من هذا القرن" . فإما أن يدجن العالم ويخضع للثقافة الأميركية ، وإما أن تظهر فيه وتتشكل اتجاهات حول ثقافات وحضارات مناهضة للثقافة الأميركية المهيمنة.

      والشيء الغريب أن فرنسا التي أنكرت مقولة " الاختراق الثقافي " للشعوب منذ أكثر من ربع قرن عادت تطلقه من جديد خوفاً على ثقافتها وتراثها. ومع ذلك فإن تحذيرها من مخاطر الاختراق الثقافي على الهوية الثقافية يجد الازدراء والسخرية من بعض المثقفين العرب ، ومقولة خوف فرنسا من الاختراق الأميركي لثقافتها - والتي هي في الأصل ثقافة واحدة - يجد الصمت المطبق! فهل هذه الظاهرة " جلد للذات " أم هي عملية استلاب حضاري؟ هذا هو السؤال الذي سيجد الجواب يوماً.

      والطرح والمناقشة في هذا الجانب ضرورة فكرية لما يمثله من أهمية في الوقت الذي أصبح الفرض والإقصاء سمة بارزة وظاهرة للعيان لا يحتاج إلى الكثير من العناء لاكتشافه. لكن المهم أن تكون هناك أصوات للمناقشة والطرح والرفض إذا تطلب الأمر لكن التفاعل والتواصل مطلوبان وفق القبول بثقافة الآخر وهويته وقيمه وهذا ما نريده من الآخر في القرن الحادي والعشرين قرن العلم والاتصال والتواصل.


      ¨°o.O ( على كف القدر نمشي ولا ندري عن المكتوب ) O.o°¨
      ---
      أتمنى لكم إقامة طيبة في الساحة العمانية

      وأدعوكم للإستفادة بمقالات متقدمة في مجال التقنية والأمن الإلكتروني
      رابط مباشر للمقالات هنا. ومن لديه الرغبة بتعلم البرمجة بلغات مختلفة أعرض لكم بعض
      المشاريع التي برمجتها مفتوحة المصدر ومجانا للجميع من هنا. تجدون أيضا بعض البرامج المجانية التي قمت بتطويرها بذات الموقع ..
      والكثير من أسرار التقنية في عالمي الثاني
      Eagle Eye Digital Solutions