أبو نواس و المتنبي في شوارع واشنطن
*************************
الموضوع لكاتبه // الجاحظ
يعني منقول
بس بصراحة شيق جدا وممتع جدا
.........................
في شارع مكتظ بالمارة لمحت على البعد رجلاً غشيه السواد من هامته إلى قدميه .. كان يلبس قبعة سوداء و نظارة سوداء و ( بالطو ) أسوداً و قفازين أسودين و حذاء طويلاً أسوداً ..
كان يسير حثيثاً و يتعثر في مشيه .. و بين كل خطوتين يلتفت وراءه بارتباك و كأن شراً يطارده ..
و لكن .. !! أظن أنني ... !! إنه ... نعم أظن أني أحتفظ في ذاكرتي بشيء من هذه الملامح.. وجهه مألوف و صفاته ليست غريبة ...
يا إلهي .. أنا متأكد أنه ليس غريباً .. لقد رأيته .. أو ... أو وُصف لي بالأحرى .. و في الحالين فإن ملامحه ذات دلالة و إيحاء بطريقة أو أخرى
آه .. إلهي !! إنه أبو الطيب المتنبي .. إنه هو .. نعم هو ..
كيف ! و لماذا ! و متى ! و أين ؟! .. أتراه قفز من أغوار التاريخ إلينا .. أم زماننا عاد مئات السنين ؟! و فوق هذا .. ما الذي فعله بنفسه ؟ و ما هذا السواد الحالك ؟!
أسرعت وراءه أحث خطاي و أصطدم بهذا و أتجاوز ذاك حتى كان في متناولي فمددت يدي إلى كتفه ..
المتنبي/ لالا .. بريء .. أقسم إنه هو .. و الله ما فعلت شيئاً
أنا/ هدئ من روعك .. لست قاصداً بسوء .. أنت آمن
المتنبي/ قلت لك لا علاقة لي .. ألم يكفكم هو .. والله إنني بريء
أنا/ يا رجل قلت لك لن أوذيك .. إنما أحببت التعرف عليك .. ألست ..
المتنبي/ لا .. لست شيئاً .. لست أحداً
أنا/ يا أخي أنا حسن النية مسالم .. و لم أرك قبل الآن .. و قد أردت سؤالك .. ألست شاعرنا أبا الطيب المتنبي ؟
المتنبي/ متنبي من يا رجل ؟! أنا جاك هيدسون .. لا علاقة لي بمن ذكرت
أنا/ أبا الطيب .. أراهن عليك .. و لئن تهت عن الجهات الأربع فلن أتيه عنك
المتنبي/ أ أنا آمن ؟
أنا/ نعم .. أنا عربي مثلك و كل غريب للغريب نسيب
المتنبي/ متأكد أنك عربي ؟
أنا/ أؤكد لك ذلك .. و لست من الحضارة بمستوى يؤهلني للمكر .. اطمئن
المتنبي/ لا بأس .. أنا .. أنا .. نعم أنا هو أبو الزفت المتنبي
" قالها و أشاح عني بوجهه "
أنا/ ما الذي جاء بك إلى أمريكا و كيف جئت ؟
المتنبي/ لا يهم كيف و لا لماذا جئت .. سأحدثك و لكن اقصد بي مكاناً آمناً .. إنهم يطاردونني .. سيذبحونني
أنا/ يذبحونك !! من هم ؟
المتنبي/ سأخبرك .. سأخبرك بكل شيء .. و لكن استرني سترك الله .. لنفارق هذا المكان
أنا/ حسناً .. لنذهب إلى الشقة
" و في الشقة "
أنا/ ماذا تشرب يا أبا الطيب ؟
المتنبي/ كابتشينو
أنا/ و الآن .. أخبرني ما شأنك
المتنبي/ شأني .. هه .. شأني شأن من ذهب يرجو المغنم .. فعاد بلا خفي حنين و لا إزاره .. لقد جمعني السفر و اتحاد العزم بأبي نواس .. فقد جئنا لمدح هذا المأفون بوش لعلنا نحظى بجائزة أو ينفحنا بفضل مال .. و لما استأذنا عليه و قمت أنا أمامه و بدأت الإنشاد .. صرخ بجنده أن اقبضوا على الإرهابي .. فأطلقت أنا ساقي للريح .. و كان أبو نواس قد أكثر الشراب و السهر الليلة البارحة فلم تغثه رجلاه و أمسكوه
أنا/ و لكن .. أبعد سيف الدولة تمدح بوش .. و هل مثل بوش يمدح ؟
المتنبي/ تعرف مقدار البطالة في العالم العربي .. و القرش غالٍ
أنا/ و ماذا عن أبي نواس ؟
المتنبي/ في داهية .. ليقتلوه إن شاؤوا
أنا/ لم تقل لي .. كيف اشتبه بكما ؟
المتنبي/ و ما يدريني عن ذلك القرد ؟! مع أني كنت متنكراً كما ترى .. و لم يكن أبو نواس أقل مني .. فقد لبس بنطال ( جينز ) و ( تيشيرت ) و لبس قبعة رياضية مقلوبة .. و قد ترجمت شعري حتى لا تشك العفاريت الزرق به ... لعل الجان أخبره !!
أنا/ هلا أعدت علي ما قلت
المتنبي/ " أنشد قصيدته في بوش "
أنا/ يا رجل !! اتق الله ربك ... لقد تغنيت بوقعة ذي قار .. و كانت الغلبة فيها للعرب على الروم ... كيف فاتك هذا ؟!
المتنبي/ آآه .. صدقت والله .. ياللغباء .. لقد أردت شتمها فتغنيت بها
" بعد مدة "
كان اليوم جميلاً عذب النسمات .. دخلت الشقة و إذا أبو الطيب جالس و هو ساهم قد استغرق في تفكيره عما حوله .. و يبدو أن فكرة قد استغرقته بعمقها فملكت عليه حواسه ... تنحنحت ثم قلت بلهجة تكلفت وديتها لعلي أبدد همه :
أنا/ ألم يسمع شاعرنا بأضرار التفكير المتصل .. هاه .. علام استقر عزمك يا أبا الطيب ؟
المتنبي/ أراك و كأنك سئمت استضافتي !
أنا/ لا والله .. ما أنصفتني يا أبا الطيب ... إنما كان سؤالاً عابراً
المتنبي/ لا أدري ماذا أقول ... لا أظنني قد عزمت على شيء .. بيد أني ..
أنا/ أنك ماذا ؟
المتنبي/ بيد أني أحس .. بوخزة في أشلاء ضميري المنهك
أنا/ أتعني الضمير لا غير ... آه منذ كم لم أسمع هذه الكلمة بهذا المعنى .... و لكن .. خيراً يا أبا الطيب ؟!
المتنبي/ زِق الخمرة .. أبو نواس
أنا/ خيراً .. ما شأنه ؟!
المتنبي/ إنه و إن كان و كان .. فلا زال حق النصح له علي .. و أرى من قلة المروءة أن أدعه حيث يحتاج العون ... و ليت شعري أين هو و كيف هو الآن
أنا/ رغم أنني لا أستسيغه ... و لكن نعم ما قلت ... و لك مني العون إن شئت
المتنبي/ لا .. لن أكلفك فوق ما كلفتك ... سأتدبر شأني بنفسي
" و بعد مدة "
أنا/ هاه ... ماذا كان من أمرك يا أبا الطيب ؟
المتنبي/ ... " يتنهد بعمق " ... كل خير إن شاء الله .. كل خير
أنا/ أوقعت له على خبر ؟
المتنبي/ لقد تحطمت رجلاي من البحث و عي لساني من السؤال ... و لما أن كدت أفقد الأمل .. جاءني الفرج .. و لكنه ... إنه بحق أمر عجيب !!
أنا/ !!!
المتنبي/ حين كدت أفقد الأمل بالعثور على من يعرف خبره .. اتجهت إلى أحدهم و قد عزمت أن يكون آخر مشواري لهذا اليوم ... فأجابني بما أدهشني ... قال إنه يستطيع الوصول إليه .. و إن أبا نواس عزيز كريم في مصلحة حكومية أمريكية
أنا/ عزيز !! و كريم !! أتعني ... ؟!
المتنبي/ نعم .. لم يمسه ما توقعت من عذاب و بلاء ... و على أي حال ... فقد أعطيت ذلك الرجل عنوان الشقة ليعطيه أبا نواس فيلحق بنا متى استطاع ... و لا أظنه سيثقل عليك ؟!
أنا/ لا لا .. بل على الرحب و السعة
" و بعد أيام "
كنت في المطبخ أهيئ بعض ما نأكله ... و كان أبو الطيب يكتب قصيدة في استراحة الشقة ... و بينا نحن كذلك .. دق جرس الباب مرة أو مرتين .. و سمعت خطوات أبي الطيب متجهاً نحو الباب ... و ما هي إلا لحظات إذ راعني و هو يشهق بأعلى صوته ... أسرعت لأستطلع الأمر و إذا هو واقف كالملدوغ جاحظة عيناه .. و قد تدلى فكه ... و إذا بالباب ...!!!!!!
أنا/ مـ...مـ...ن ... من .. من أنت ؟؟؟
هو/ أنسيتني يا أبا الطيب ؟
" لم يجبه المتنبي و أجبته أنا "
أنا/ أخرج يا هذا .. اخرج و إلا استدعيت الشرطة و سيكون أشقى أيام حياتك
هو/ عجبي !! رويدكم يا قوم ... أبا الطيب ما بالك ؟ أ خانتك ذاكرتك ؟ أنا أبو نواس
" شهقنا بصوت واحد : ( أبو نواااس ؟؟ ) "
هو/ نعم .. أنا أبو نواس .. انظر إلي جيداً يا أبا الطيب .. أنا أبو نواس
" يا إلهي !! لقد كان .. بل لم يكن ... لم يكن إلا جسداً برأس و أشباه أطراف .. بلا وجه و لا قفا و لا ملامح ... جسد برأس و أطراف فقط "
أنا/ و لكن ... أين ؟ .. كيف ..؟ أعني .. هل ..؟
هو/ أ تقصد .. كيف صرت إلى هذه الهيئة ؟
أنا/ لا .. إنما أعني ... أقصد .. أنت حـ...ـقـ..ـاً بـ...ـشـ...ـر ؟
المتنبي/ أبو نواس ؟! ... لا .. نحن نحلم .. أكيد أننا نحلم .. !!
أنا/ أبا الطيب .. أنا هو .. أبو نواس .. أقسم بالله ... هلا أدخلتموني لأشرح لكم قصتي ؟
" بعد دقائق "
لم يزل الرعب و الدهشة و آثار الصدمة تسيطر علينا .. و لكن خفت الحدة .. و حق لنا الرعب .. فقد رأينا هولاً من الأهوال .. جسد و رأس .. بلا وجه و لا قفا و لا ملامح و لا ما يدل على بشريته في يومٍ من الأيام ...
أمر غريب .. بل مرعب .. بل أشد من هذا و ذاك ... إنه المستحيل بعينه
أنا/ تفضل يا أبا نواس ... " قلتها ثقيلة بلهجة غير المصدق " ...
المتنبي/ لا أزال غير مصدق .. أحس أنني تائه في حلم لم أستطع الاستيقاظ منه ... أو .. أو ضائعاً في أعماق الصحراء تطارده قهقهات الموت من كل اتجاه
هو/ اتجاه .. اتجاه ... " قالها متضجراً " ... لا بد أن تصدقا .. أنا أبو نواس ... " و مضى يسرد على أبي الطيب قصة مجيئهما لبوش " ...
هز المتنبي رأسه بتثاقل .. و كأنه أرغم على تصديق أحد المستحيلات الثلاثة
المتنبي/ نعم .. نعم .. لم تترك مجالاً للشك .. و لكن اعذرنا فليس هذا مما يسهل على المرء تصديقه .. و لو كان هو الصدق بعينه
هو/ أقدر حالتكما ... و الآن .. أ لن تضيفاني شيئاً ؟!
أنا/ بلى .. تفضل .. دقائق فقط
هو/ ..." يرتشف الشاي ببطء و تلذذ "... أظنكما بشوق لسماع خبري و معرفة ما حل بي ؟
أنا/ أكيد ..
المتنبي/ في أشد الشوق
هو/ ... " يضع فنجانه و يعتدل في جلسته " ... إن أول ما يقفز في ذهني حين أريد الحديث عما جرى هو أن أولئك القوم كانوا غاية في اللطف و النبل ... و أنني كنت تائهاً ضائعاً طوال سنيّ عمري الماضية ..
المتنبي/ ... " يتمتم " ... ضائع؟؟!
هو/ نعم .. و أشد ما يكون الضياع ... أشـ..ـد ما يـ..ـكون الضياع ... " و شد على جملته الأخيرة " ...
كنت مريضاً و موبوءاً ... و لكني لا أدري بمرضي .. بل كنت أراه عافية و صحة و أرى عافية غيري مرضاً و بلاءً .. و لن ألوم نفسي .. فليس هذا المرض مما يدرك بالحواس الست
" صمت لبرهة و كأنه يعطي عقولنا فرصة لاتخاذ موقف مما قال .. شجعه صمتنا فواصل "
و قد يهون الأمر لو كان المرض عضوياً فحسب .. و لكنه مرض شملني من الألف إلى الياء .. كما يشمل بني قومي الآن و الذين لا يشعرون بمرضهم ...
أنا/ أ تقصد ...
هو/ دعني أكمل لو سمحت .. باختصار يا سادة .. مرضي الذي شفيت منه و مرضكم الذي تعانون منه هو مرض الجهات .. عقدة الجهات ..
أنا/ الجهات ؟!!
المتنبي/ !!!
هو/ الأمام يتقدم الخلف ... الأعلى فوق الأسفل ... اليسار شمال اليمين .. وجه و قفا .. جنوب و شمال و شرق .. و غرب .. هنا و هناك ... مع .. و ضد .. و عكس
هذا هو مرضنا .. و هذه عقدتنا .. و هذا بلاؤنا ... هذا الذي قعد بنا عما نهضت إليه الأمم ..
أحمد ربي كثيراً على أن شفاني من هذا الداء .. أنا الآن لا يهمني كيف أتجه .. و لا من أستقبل و لا من أستدبر .. لأنني برئت من المرض .. لا الوجه يكبلني .. و لا القفا يقيدني .. و لا الشمال يحبس حريتي .. و لا الجنوب يكتم أنفاسي ... أنا حر .. طليق .. لا أعرف اليمين و لا اليسار ... أكتب كما يحلو للورقة .. و أتحدث كما يحلو للجدران .. و أمشي كما يحلو للأرض .. أسير للوراء و للأمام .. و لا أهتم
و الفضل كله لهؤلاء الطيبين ..
هؤلاء النبلاء يريدون عافيتكم و شفاءكم .. و لكنكم مرضى حتى النخاع .. حتى آخر قطرة في دمائكم ..
هم يريدون تخليصكم من عقدة الاتجاهات .. كل ما يفعلونه في صالحكم .. و لئن أعطيتموهم الفرصة ليصححوا خطأكم .. فلتنعمن بعيشكم .. و لتجدن لذة العافية
دعوهم بتقنيتهم يخلصوكم من وجوهكم و أقفائكم .. و يستأصلوا ملامحكم .. دعوهم يخلطون الجهات الست حتى تذوب .. أعطوهم الفرصة .. ضعوا أكفكم في " أرجلهم " و لا تتعاونوا مع المرض على أنفسكم و عليهم ..
صدقاني ..
أول خطوة هي الشعور بالمرض و بالحاجة للدواء ..
صدقاني ..
الشر كل الشر أن تشوهوا خرائطكم بالاتجاهات .. دعوها غفلاً من أي اتجاه .. ألغوا أي اتجاه .. ألغوا كل ما يذكركم بالاتجاه .. و لن تندموا
" و الآن "
اقتنعنا بكلام أبي نواس .. كان كلامه واقعياً .. و لا مجال للمقاومة .. و ها قد تخلصت أنا و أبو الطيب من عقدة الاتجاه .. و شفينا من وجوهنا .. و تعافينا من أقفائنا .. صار أبو الطيب يكتب الشعر من اليسار لليمين ـ كما تقولون ـ و من اليمين لليسار .. و من الأعلى للأسفل و من الأسفل للأعلى ..
لم نعد نواجه مشكلة في استقبال القبلة .. نصلي للشرق تارة و للغرب أخرى .. و لا ننسى الشمال و الجنوب من راتبة أو تنفل .. لا مشكلة .. و لا عناء في البحث ..
ما عدنا نتعب في لعبتنا المفضلة كرة القدم .. صرنا نسدد في الاتجاهين ..
باختصار .. لا مشاكل بعد اليوم ..
*************************
الموضوع لكاتبه // الجاحظ
يعني منقول
بس بصراحة شيق جدا وممتع جدا
.........................
في شارع مكتظ بالمارة لمحت على البعد رجلاً غشيه السواد من هامته إلى قدميه .. كان يلبس قبعة سوداء و نظارة سوداء و ( بالطو ) أسوداً و قفازين أسودين و حذاء طويلاً أسوداً ..
كان يسير حثيثاً و يتعثر في مشيه .. و بين كل خطوتين يلتفت وراءه بارتباك و كأن شراً يطارده ..
و لكن .. !! أظن أنني ... !! إنه ... نعم أظن أني أحتفظ في ذاكرتي بشيء من هذه الملامح.. وجهه مألوف و صفاته ليست غريبة ...
يا إلهي .. أنا متأكد أنه ليس غريباً .. لقد رأيته .. أو ... أو وُصف لي بالأحرى .. و في الحالين فإن ملامحه ذات دلالة و إيحاء بطريقة أو أخرى
آه .. إلهي !! إنه أبو الطيب المتنبي .. إنه هو .. نعم هو ..
كيف ! و لماذا ! و متى ! و أين ؟! .. أتراه قفز من أغوار التاريخ إلينا .. أم زماننا عاد مئات السنين ؟! و فوق هذا .. ما الذي فعله بنفسه ؟ و ما هذا السواد الحالك ؟!
أسرعت وراءه أحث خطاي و أصطدم بهذا و أتجاوز ذاك حتى كان في متناولي فمددت يدي إلى كتفه ..
المتنبي/ لالا .. بريء .. أقسم إنه هو .. و الله ما فعلت شيئاً
أنا/ هدئ من روعك .. لست قاصداً بسوء .. أنت آمن
المتنبي/ قلت لك لا علاقة لي .. ألم يكفكم هو .. والله إنني بريء
أنا/ يا رجل قلت لك لن أوذيك .. إنما أحببت التعرف عليك .. ألست ..
المتنبي/ لا .. لست شيئاً .. لست أحداً
أنا/ يا أخي أنا حسن النية مسالم .. و لم أرك قبل الآن .. و قد أردت سؤالك .. ألست شاعرنا أبا الطيب المتنبي ؟
المتنبي/ متنبي من يا رجل ؟! أنا جاك هيدسون .. لا علاقة لي بمن ذكرت
أنا/ أبا الطيب .. أراهن عليك .. و لئن تهت عن الجهات الأربع فلن أتيه عنك
المتنبي/ أ أنا آمن ؟
أنا/ نعم .. أنا عربي مثلك و كل غريب للغريب نسيب
المتنبي/ متأكد أنك عربي ؟
أنا/ أؤكد لك ذلك .. و لست من الحضارة بمستوى يؤهلني للمكر .. اطمئن
المتنبي/ لا بأس .. أنا .. أنا .. نعم أنا هو أبو الزفت المتنبي
" قالها و أشاح عني بوجهه "
أنا/ ما الذي جاء بك إلى أمريكا و كيف جئت ؟
المتنبي/ لا يهم كيف و لا لماذا جئت .. سأحدثك و لكن اقصد بي مكاناً آمناً .. إنهم يطاردونني .. سيذبحونني
أنا/ يذبحونك !! من هم ؟
المتنبي/ سأخبرك .. سأخبرك بكل شيء .. و لكن استرني سترك الله .. لنفارق هذا المكان
أنا/ حسناً .. لنذهب إلى الشقة
" و في الشقة "
أنا/ ماذا تشرب يا أبا الطيب ؟
المتنبي/ كابتشينو
أنا/ و الآن .. أخبرني ما شأنك
المتنبي/ شأني .. هه .. شأني شأن من ذهب يرجو المغنم .. فعاد بلا خفي حنين و لا إزاره .. لقد جمعني السفر و اتحاد العزم بأبي نواس .. فقد جئنا لمدح هذا المأفون بوش لعلنا نحظى بجائزة أو ينفحنا بفضل مال .. و لما استأذنا عليه و قمت أنا أمامه و بدأت الإنشاد .. صرخ بجنده أن اقبضوا على الإرهابي .. فأطلقت أنا ساقي للريح .. و كان أبو نواس قد أكثر الشراب و السهر الليلة البارحة فلم تغثه رجلاه و أمسكوه
أنا/ و لكن .. أبعد سيف الدولة تمدح بوش .. و هل مثل بوش يمدح ؟
المتنبي/ تعرف مقدار البطالة في العالم العربي .. و القرش غالٍ
أنا/ و ماذا عن أبي نواس ؟
المتنبي/ في داهية .. ليقتلوه إن شاؤوا
أنا/ لم تقل لي .. كيف اشتبه بكما ؟
المتنبي/ و ما يدريني عن ذلك القرد ؟! مع أني كنت متنكراً كما ترى .. و لم يكن أبو نواس أقل مني .. فقد لبس بنطال ( جينز ) و ( تيشيرت ) و لبس قبعة رياضية مقلوبة .. و قد ترجمت شعري حتى لا تشك العفاريت الزرق به ... لعل الجان أخبره !!
أنا/ هلا أعدت علي ما قلت
المتنبي/ " أنشد قصيدته في بوش "
أنا/ يا رجل !! اتق الله ربك ... لقد تغنيت بوقعة ذي قار .. و كانت الغلبة فيها للعرب على الروم ... كيف فاتك هذا ؟!
المتنبي/ آآه .. صدقت والله .. ياللغباء .. لقد أردت شتمها فتغنيت بها
" بعد مدة "
كان اليوم جميلاً عذب النسمات .. دخلت الشقة و إذا أبو الطيب جالس و هو ساهم قد استغرق في تفكيره عما حوله .. و يبدو أن فكرة قد استغرقته بعمقها فملكت عليه حواسه ... تنحنحت ثم قلت بلهجة تكلفت وديتها لعلي أبدد همه :
أنا/ ألم يسمع شاعرنا بأضرار التفكير المتصل .. هاه .. علام استقر عزمك يا أبا الطيب ؟
المتنبي/ أراك و كأنك سئمت استضافتي !
أنا/ لا والله .. ما أنصفتني يا أبا الطيب ... إنما كان سؤالاً عابراً
المتنبي/ لا أدري ماذا أقول ... لا أظنني قد عزمت على شيء .. بيد أني ..
أنا/ أنك ماذا ؟
المتنبي/ بيد أني أحس .. بوخزة في أشلاء ضميري المنهك
أنا/ أتعني الضمير لا غير ... آه منذ كم لم أسمع هذه الكلمة بهذا المعنى .... و لكن .. خيراً يا أبا الطيب ؟!
المتنبي/ زِق الخمرة .. أبو نواس
أنا/ خيراً .. ما شأنه ؟!
المتنبي/ إنه و إن كان و كان .. فلا زال حق النصح له علي .. و أرى من قلة المروءة أن أدعه حيث يحتاج العون ... و ليت شعري أين هو و كيف هو الآن
أنا/ رغم أنني لا أستسيغه ... و لكن نعم ما قلت ... و لك مني العون إن شئت
المتنبي/ لا .. لن أكلفك فوق ما كلفتك ... سأتدبر شأني بنفسي
" و بعد مدة "
أنا/ هاه ... ماذا كان من أمرك يا أبا الطيب ؟
المتنبي/ ... " يتنهد بعمق " ... كل خير إن شاء الله .. كل خير
أنا/ أوقعت له على خبر ؟
المتنبي/ لقد تحطمت رجلاي من البحث و عي لساني من السؤال ... و لما أن كدت أفقد الأمل .. جاءني الفرج .. و لكنه ... إنه بحق أمر عجيب !!
أنا/ !!!
المتنبي/ حين كدت أفقد الأمل بالعثور على من يعرف خبره .. اتجهت إلى أحدهم و قد عزمت أن يكون آخر مشواري لهذا اليوم ... فأجابني بما أدهشني ... قال إنه يستطيع الوصول إليه .. و إن أبا نواس عزيز كريم في مصلحة حكومية أمريكية
أنا/ عزيز !! و كريم !! أتعني ... ؟!
المتنبي/ نعم .. لم يمسه ما توقعت من عذاب و بلاء ... و على أي حال ... فقد أعطيت ذلك الرجل عنوان الشقة ليعطيه أبا نواس فيلحق بنا متى استطاع ... و لا أظنه سيثقل عليك ؟!
أنا/ لا لا .. بل على الرحب و السعة
" و بعد أيام "
كنت في المطبخ أهيئ بعض ما نأكله ... و كان أبو الطيب يكتب قصيدة في استراحة الشقة ... و بينا نحن كذلك .. دق جرس الباب مرة أو مرتين .. و سمعت خطوات أبي الطيب متجهاً نحو الباب ... و ما هي إلا لحظات إذ راعني و هو يشهق بأعلى صوته ... أسرعت لأستطلع الأمر و إذا هو واقف كالملدوغ جاحظة عيناه .. و قد تدلى فكه ... و إذا بالباب ...!!!!!!
أنا/ مـ...مـ...ن ... من .. من أنت ؟؟؟
هو/ أنسيتني يا أبا الطيب ؟
" لم يجبه المتنبي و أجبته أنا "
أنا/ أخرج يا هذا .. اخرج و إلا استدعيت الشرطة و سيكون أشقى أيام حياتك
هو/ عجبي !! رويدكم يا قوم ... أبا الطيب ما بالك ؟ أ خانتك ذاكرتك ؟ أنا أبو نواس
" شهقنا بصوت واحد : ( أبو نواااس ؟؟ ) "
هو/ نعم .. أنا أبو نواس .. انظر إلي جيداً يا أبا الطيب .. أنا أبو نواس
" يا إلهي !! لقد كان .. بل لم يكن ... لم يكن إلا جسداً برأس و أشباه أطراف .. بلا وجه و لا قفا و لا ملامح ... جسد برأس و أطراف فقط "
أنا/ و لكن ... أين ؟ .. كيف ..؟ أعني .. هل ..؟
هو/ أ تقصد .. كيف صرت إلى هذه الهيئة ؟
أنا/ لا .. إنما أعني ... أقصد .. أنت حـ...ـقـ..ـاً بـ...ـشـ...ـر ؟
المتنبي/ أبو نواس ؟! ... لا .. نحن نحلم .. أكيد أننا نحلم .. !!
أنا/ أبا الطيب .. أنا هو .. أبو نواس .. أقسم بالله ... هلا أدخلتموني لأشرح لكم قصتي ؟
" بعد دقائق "
لم يزل الرعب و الدهشة و آثار الصدمة تسيطر علينا .. و لكن خفت الحدة .. و حق لنا الرعب .. فقد رأينا هولاً من الأهوال .. جسد و رأس .. بلا وجه و لا قفا و لا ملامح و لا ما يدل على بشريته في يومٍ من الأيام ...
أمر غريب .. بل مرعب .. بل أشد من هذا و ذاك ... إنه المستحيل بعينه
أنا/ تفضل يا أبا نواس ... " قلتها ثقيلة بلهجة غير المصدق " ...
المتنبي/ لا أزال غير مصدق .. أحس أنني تائه في حلم لم أستطع الاستيقاظ منه ... أو .. أو ضائعاً في أعماق الصحراء تطارده قهقهات الموت من كل اتجاه
هو/ اتجاه .. اتجاه ... " قالها متضجراً " ... لا بد أن تصدقا .. أنا أبو نواس ... " و مضى يسرد على أبي الطيب قصة مجيئهما لبوش " ...
هز المتنبي رأسه بتثاقل .. و كأنه أرغم على تصديق أحد المستحيلات الثلاثة
المتنبي/ نعم .. نعم .. لم تترك مجالاً للشك .. و لكن اعذرنا فليس هذا مما يسهل على المرء تصديقه .. و لو كان هو الصدق بعينه
هو/ أقدر حالتكما ... و الآن .. أ لن تضيفاني شيئاً ؟!
أنا/ بلى .. تفضل .. دقائق فقط
هو/ ..." يرتشف الشاي ببطء و تلذذ "... أظنكما بشوق لسماع خبري و معرفة ما حل بي ؟
أنا/ أكيد ..
المتنبي/ في أشد الشوق
هو/ ... " يضع فنجانه و يعتدل في جلسته " ... إن أول ما يقفز في ذهني حين أريد الحديث عما جرى هو أن أولئك القوم كانوا غاية في اللطف و النبل ... و أنني كنت تائهاً ضائعاً طوال سنيّ عمري الماضية ..
المتنبي/ ... " يتمتم " ... ضائع؟؟!
هو/ نعم .. و أشد ما يكون الضياع ... أشـ..ـد ما يـ..ـكون الضياع ... " و شد على جملته الأخيرة " ...
كنت مريضاً و موبوءاً ... و لكني لا أدري بمرضي .. بل كنت أراه عافية و صحة و أرى عافية غيري مرضاً و بلاءً .. و لن ألوم نفسي .. فليس هذا المرض مما يدرك بالحواس الست
" صمت لبرهة و كأنه يعطي عقولنا فرصة لاتخاذ موقف مما قال .. شجعه صمتنا فواصل "
و قد يهون الأمر لو كان المرض عضوياً فحسب .. و لكنه مرض شملني من الألف إلى الياء .. كما يشمل بني قومي الآن و الذين لا يشعرون بمرضهم ...
أنا/ أ تقصد ...
هو/ دعني أكمل لو سمحت .. باختصار يا سادة .. مرضي الذي شفيت منه و مرضكم الذي تعانون منه هو مرض الجهات .. عقدة الجهات ..
أنا/ الجهات ؟!!
المتنبي/ !!!
هو/ الأمام يتقدم الخلف ... الأعلى فوق الأسفل ... اليسار شمال اليمين .. وجه و قفا .. جنوب و شمال و شرق .. و غرب .. هنا و هناك ... مع .. و ضد .. و عكس
هذا هو مرضنا .. و هذه عقدتنا .. و هذا بلاؤنا ... هذا الذي قعد بنا عما نهضت إليه الأمم ..
أحمد ربي كثيراً على أن شفاني من هذا الداء .. أنا الآن لا يهمني كيف أتجه .. و لا من أستقبل و لا من أستدبر .. لأنني برئت من المرض .. لا الوجه يكبلني .. و لا القفا يقيدني .. و لا الشمال يحبس حريتي .. و لا الجنوب يكتم أنفاسي ... أنا حر .. طليق .. لا أعرف اليمين و لا اليسار ... أكتب كما يحلو للورقة .. و أتحدث كما يحلو للجدران .. و أمشي كما يحلو للأرض .. أسير للوراء و للأمام .. و لا أهتم
و الفضل كله لهؤلاء الطيبين ..
هؤلاء النبلاء يريدون عافيتكم و شفاءكم .. و لكنكم مرضى حتى النخاع .. حتى آخر قطرة في دمائكم ..
هم يريدون تخليصكم من عقدة الاتجاهات .. كل ما يفعلونه في صالحكم .. و لئن أعطيتموهم الفرصة ليصححوا خطأكم .. فلتنعمن بعيشكم .. و لتجدن لذة العافية
دعوهم بتقنيتهم يخلصوكم من وجوهكم و أقفائكم .. و يستأصلوا ملامحكم .. دعوهم يخلطون الجهات الست حتى تذوب .. أعطوهم الفرصة .. ضعوا أكفكم في " أرجلهم " و لا تتعاونوا مع المرض على أنفسكم و عليهم ..
صدقاني ..
أول خطوة هي الشعور بالمرض و بالحاجة للدواء ..
صدقاني ..
الشر كل الشر أن تشوهوا خرائطكم بالاتجاهات .. دعوها غفلاً من أي اتجاه .. ألغوا أي اتجاه .. ألغوا كل ما يذكركم بالاتجاه .. و لن تندموا
" و الآن "
اقتنعنا بكلام أبي نواس .. كان كلامه واقعياً .. و لا مجال للمقاومة .. و ها قد تخلصت أنا و أبو الطيب من عقدة الاتجاه .. و شفينا من وجوهنا .. و تعافينا من أقفائنا .. صار أبو الطيب يكتب الشعر من اليسار لليمين ـ كما تقولون ـ و من اليمين لليسار .. و من الأعلى للأسفل و من الأسفل للأعلى ..
لم نعد نواجه مشكلة في استقبال القبلة .. نصلي للشرق تارة و للغرب أخرى .. و لا ننسى الشمال و الجنوب من راتبة أو تنفل .. لا مشكلة .. و لا عناء في البحث ..
ما عدنا نتعب في لعبتنا المفضلة كرة القدم .. صرنا نسدد في الاتجاهين ..
باختصار .. لا مشاكل بعد اليوم ..