ليس دفاعا عن ياسر الحبيب ..!

    • ليس دفاعا عن ياسر الحبيب ..!

      ليس دفاعا عن ياسر الحبيب ..!

      في لحظة درامية تختلط فيها الأفكار والمشاعر، تضطر أحيانا للخروج من صومعتك الفكرية التي ألزمت نفسك بها حفاظا على زادك الثقافي الزهيد من الانجراف لمجاراة المستوى المحزن للمطارحات الجدالية التي تثار هنا وهناك في مجتمعنا المصاب بداء الركود الثقافي، وترى نفسك بحاجة لإثارة ما خلته من الثوابت التي تعاقد المجتمع ضمنيا على التسليم بها والتصديق عليها.
      السلم المجتمعي ... تلك الكلمة السحرية التي تعتبر الركيزة الأساس التي يعتمد عليها مفهوم الوحدة الطنية، والخط الأحمر الذي تقف عنده كل الاعتبارات السياسية والمصلحية في أي مجتمع متحضر، هذا المفهوم يظهر أننا في المراحل المبكرة من استيعابه، ناهيك عن العمل به..!
      نقول ما قلناه ونحن نتابع بأسى هذه الضجة المفتعلة حول قضية شريط الصحابة وضرورة معاقبة المسؤول عنه، وحتى لا يندفع البعض باتهامنا بأننا ندافع عما قام به الأخ ياسر الحبيب صاحب الشريط المذكور، نجد أنفسنا مضطرين على أن نؤكد رفضنا الشديد لتناول رموز المدارس الدينية –على اختلافها- بأسلوب مثير للحساسية الطائفية، وقد كان لنا الكثير من التحفظ على أسلوب الأخ الحبيب بالتحديد في عرض المسائل الخلافية بطريقة استعراضية لا تخدم مسألة التقريب بين المذاهب الإسلامية، ولا تستدعي الروح العلمية المتجردة في نقاش عقلاني هادف، بل لعلها لا تهدف إلا إلى تحقيق نوع من الرضا النفسي باعتبار القدرة على الرد على اتهامات المدرسة الاسلامية المتطرفة الأخرى، أي المدرسة السلفية.
      بعد هذا التصدير نعود لنقول، إن ما نشاهده من "مزاد سياسي"، للانتفاض لمكانة الصحابة ضد من تعرض لهم بالتهجم والانتقاص، لا يشكل ظاهرة صحية أبدا باعتبار العديد من المستويات النقاشية.
      فعلى المستوى الديني يجب أن نعترف أن المدارس المذهبية الاسلامية اختلفت بشدة حول العديد من شخصيات الصدر الأول، وعلى رأسهم الصحابة، وهذا الاختلاف هو أمر طبيعي من منظور الصيرورة التاريخية بملاحظة جميع الأديان والاتجاهات الروحية عبر الزمن، ولن يتم حل هذا الخلاف بإعلاء الصوت وكيل الاتهامات والمطالبة بقمع أصحاب الرأي الآخر حفاظا على وجهة نظر الأغلبية السكانية في بقعة جغرافية معينة.
      ومن ناحية أخرى، فإننا نستطيع وبسهولة مدهشة أن نطعن في دعوى البعض بوجوب الدفاع عن الصحابة باعتبار الحفاظ على الوحدة الوطنية، فمعظم هؤلاء ينتمون للتيار السلفي المعروف باشتغاله بتكفير المذاهب الاسلامية الأخرى، واعتبار هذه المسألة في مقدمة أولوياته بالنظر إلى اعتبارات عقدية معروفة، وما فتئ هذا التيار يرمي بكل ثقله في عملية إلهاء المجتمعات الاسلامية بالمسائل الخلافية والطعن في كل محاولة مخلصة للتقريب بين طوائف المسلمين، ولا يتطلب الأمر عناء شديدا لأثبات هذا، فالأخوة يجاهرون بهذه المناهج المتطرفة علنا، وزيارة واحدة إلى مكتباتهم المنتشرة في أنحاء الكويت "ومساجدها" تكفي ليرى الزائر كم الكتب والتسجيلات الموجهة ضد الطوائف الأخرى، بل إن بعض "أساتذة" الجامعة من كلية الشريعة قد صرح بكل وضوح أن من ينتقص من قدر الشيخين خصوصا والصحابة عموما قد بلغ مرتبة الكفر، مما يترتب عليه استحقاقات فقهية تصل مرحلة هدر الدم، فهل بعد هذا يكون ادعاء الرغبة في المحافظة على الوحدة الوطنية مكتسبا لنزر يسير من المصداقية؟!
      ثمة من يشير إلى أبعاد سياسية واضحة قد تكون المشكل الأساسي لهذه الحملة الغوغائية المتمسحة بعباء الدفاع عن المقدسات، فعلى المستوى المحلي يحاول التيار الديني تحقيق إنجازات قد تلملم صفوفه التي تعرضت لضربة قاسية في الانتخابات البرلمانية السابقة، وأيضا يحاول هذا التيار تثبيت أقدام الوجوه الصاعدة الجديدة والتي برزت باعتبار التحالف المعروف بين الأصولية الدينية والتقاليد القبلية، فترى هذا التيار وهو يحاول انتهاز أي فرصة تسمح له بالتحدث عاليا عن القيم الدينية والتقاليد الاجتماعية، مما يؤدي لتلميع صورة هؤلاء "الجدد" ومصادرتهم الضمنية لحقوق الدفاع عن الثوابت والمقدسات وتمثيل المفاهيم الأصيلة للمجتمع، وقد رأينا هذا بوضوح في تعاملهم المتشنج مع وزير الاعلام الحالي، بدأا من مسألة صورة الكعبة في الأذان وانتهاء –من يدري- بموضوع الحفلات الغنائية المعروفة، وضمن هذا الإطار يمكن قراءة مسألة الانتفاضة الحالية للدفاع عن الصحابة، إلا أن هناك بعدا آخر يتشكل في قراءة الحركة السلفية للمتغيرات الإقليمية التي تعصف بالمنطقة، فبعد صعود نجم الشيعة في العراق إثر سقوط النظام العراقي السابق، الشيء الذي يحدث بالتوازي مع تسليط الأنظار على مناهج التعليم لدى التيار الديني الأصولي ومراقبة حركة أمواله، باعتبار ما أفرزه المناخ الفكري والعقدي المتطرف الذي هو نتيجة منطقية لجمود وتشدد التيار الأصولي في منطقة الخليج، مما ترتب على ما سبق شعورا بالخطر على الكيان الحركي ككل، واتجاها قويا لتقليم الأظفار المادية والمعنوية لهذا التيار، مما يستتبع بالضرورة تحركا قويا يرسل رسالة للجماعات المذهبية المخالفة في الداخل وللقوى الدولية الآتية من الخارج بالانتباه على طريقة "نحن هنا"!
      الضحية في كل ما يحدث هو مرة أخرى مفهوم السلم المجتمعي الذي لا زال التيار الأصولي المتشدد في الخليج أبعد ما يكون من الايمان به، ناهيك عن العمل به، مما يكشف عن حالة متأخرة في استيعاب الفرق الهائل بين الدولة والجماعة، وأن الدولة هي وطن للمواطنين جميعا وليست لأعضاء الحزب أو التنظيم، وهي أيضا ليست دولة المؤمنين صحيحي الاعتقاد فقط، بل هي وطن لكل أبنائها، ولا تلعب الدولة دورا في فض المنازعات الاعتقادية بين مواطنيها، فهذا الدور المشكوك في مدى اهميته العملية هو دور العلماء المعتدلين والمثقفين المتنورين، أما ما رأيناه من مطالبة الدولة بالقصاص من صاحب الشريط إياه باعتباره تعرض لركيزة أساس من ركائز الدين الإسلامي –من وجهة نظر أحادية بالطبع- لا يجعلنا نثق في مدى الوعي السياسي والاجتماعي الذي يتمتع به أصحاب هذه الدعاوى.
      إن مفهوم السلم المجتمعي هو الركيزة الأساس لأي مجتمع ينشد تدعيم الوحدة الوطنية بين أبنائه، ويظهر أننا بحاجة ماسة إلى استعارة بعض النماذج في ذلك من الغربيين "الكفرة"، لنعلم بعض "المؤمنين" كيف يتعايشوا بدون ضجيج ..!


      د. سليمان الخضاري
      تورونتو