الاسلام و تحديات العولمة

    • الاسلام و تحديات العولمة

      الكاتب: د.علي الطراح*


      دخول المساهمات من منظور إسلامي لمعالجة قضايا العولمة والتنمية بدأت متأخرة بعض الشيء لعوامل عديدة، ولكن ربما لارتباط المناظرة حول التنمية، والحداثة، والتبعية والتخلف والنمو، والإنماء أو التطور، بالفكر الغربي بصورة عامة، وبتطور المجتمعات الرأسمالية تحديداً من مرحلة إلى أخرى.
      وقد اختلطت هذه المفاهيم في الأدبيات المنطلقة من منظور إسلامي، وفي بدايتها بالتحديد اصطلاحات أخرى مثل التغريب، العلاقة بين الغرب المسيحي بصورة عامة، والشرق المسلم، حيث ارتبط الغرب بالقوة والعلم والتمدن، بينما ارتبط الشرق بالجمود والتخلف، ولعل هذا ما جعل المنظرين الإسلاميين ينظرون إلى الدراسات التي تتناول العولمة أو النخبة بصورة مبدئيه على أنها مجالات أو علوم قامت أساسا على النظر في أحوال أمم الشرق جملة، على نسق الاستشراق.
      ولاعتبار أن هذه المجالات، والمقصود هنا «العولمة»، جاءت من الغرب لاحتواء الشرق، كان لا بد للمساهمات القائمة على منظور إسلامي أن تتجه إلى منحى المقارنة ثم النقد لهذه التوجهات من وجهة النظر المعرفية الإسلامية. ولذلك يمكن القول إن هذه المنهجية تستند أولا الى منهج نقدي، وثانيا على تحديد منطلق جديد يعتمد هنا على إسلامية المنطلق، ثم خصائص تلك الإسلامية، وثالثاً في نسق الأساس المعرفي لنظريات التنمية والحداثة، على اعتبار أنها انبثقت من مشروع حضاري غربي ـ ويتم ذلك كما يقول نصر عارف ـ عبر عرض المقولات الرئيسية لتلك النظريات، ومحاولة استكشاف نظرية إسلامية في هذا المجال.
      وقد يرجع الفضل في البدايات النقدية للمنهج الغربي في إطار دراسات العولمة والحداثة، إلى المفكر الإيراني علي شريعتي، الذي دعا إلى العودة إلى الذات، وقال إن القضايا الاجتماعية لها ارتباط وثيق ورابطة مباشرة بالبيئة الاجتماعية والمكانية والزمانية لها، ومن ثم لن يكون مجديا البحث عن صحتها، بل الأجدى البحث عن صلاحيتها لبيئة اجتماعية مغايرة.
      وإذا كان لشريعتي سبق الفضل في المبادرة بطرح البنود الأولى لما يمكن تسميته بمنهج إسلامي للعولمة، فإن هذا لا يعني إنكار المساهمات العديدة لمفكرين إسلاميين من امثال مالك بن نبي، ومنير شفيق، وعادل حسين، ومنى أبو الفضل، ورشدي فكار، وغيرهم. لكن المشكلة أن الجهد النظري الكبير الذي بذله كل من شريعتي، وبن نبى لم يتوج، حتى بعد أربعة عقود من كتاباتهم، بنظرية متكاملة للحداثة من منظور إسلامي. وما يمكن قوله إن الكتابات المتأخرة عملت بجد على نقد النظريات السائدة أكثر مما عملت على وضع أسس جديدة، وإذا ما استثنينا كتابات، أو محاولات منى أبو الفضل الجادة لإيجاد منهج متكامل، نجد أن معظم الكتابات المعاصرة هي أقرب إلى النقد السلبي منها إلى النقد المنهجي أو المعرفي.
      وإذا ما أراد المعاصرون من الكتاب، وخاصة الشباب منهم، خوض غمار تأسيس نظرية محدثة للتنمية والحداثة من منظور إسلامي، فإنهم يعودون إلى ابن تيمية، وسيد قطب، أكثر من العودة إلى مالك بن نبي، وعلي شريعتي الأكثر تمكنا من فهم الظاهرة الاستعمارية ومن تشعباتها العديدة.
      غير أنه يمكن القول، بقدر من الاطمئنان، ان هناك محاولات جادة لوضع أسس نظرية لمعضلة التخلف التي تواجه العالم الثالث ولا سيما الإسلامي منه. وتبدأ هذه المحاولات، كما قلنا، بنقد مرجعى للكتابات العربية في هذا الشأن، وعلى أساس أن هذه الكتابات تتجه إلى تقليد النظريات الأوروبية والنقل عنها. ويتم هذا التعميم، حيث عادة ما تقسم الكتابات العربية إلى تلك التي تتبنى المنهج الليبرالي السلوكي أو النموذج الاشتراكي، أو تلك التي تتبنى مدارس التبعية والتخلف. وقد يكون هذا النقد في معظمه غير دقيق، على اعتبار أن المفكرين الإسلاميين لم يقدموا، حتى الآن، الجهد النظري الضخم الذي يمكن من خلاله الحديث عن نظرية إسلامية في التنمية والحداثة. ولا يتم في هذا الصدد نقد تلك النظريات على أساس أنها تلفيقية ولا تمت للواقع «الإسلامي» بصلة، بل يتم نقد حتى تلك الجهود التي تحاول الانطلاق من أرضية إسلامية، بحجة محاولتها إحداث مصالحة غير ممكنة بين النظريات الأوروبية والقيم الإنسانية. وتوجه هذه الانتقادات إلى كتاب جادين في التوصل إلى صيغة، أمثال د.محمد أحمد خلف الله «الأسس القرآنية للتقدم»، د. جلال أمين «تنمية أم تبعية اقتصادية وثقافية»، محمد عابد الجابري «نحن والتراث»، أنور عبد الملك.
      ويتركز انتقاد المنظرين الإسلاميين لنظريات التنمية والحداثة على: قصور المناهج المستخدمة في دراسة قضايا التنمية، حيث تختصر أوجه القصور في الطبيعة الجامدة لهذه المناهج، وفي ميكانيكيتها، وفي تفتيت الظاهرة الاجتماعية، وافتقارها للتكامل المنهاجي. ومن الانفصال بين المقولات والموضوعات، وفي محدودية فهم الواقع السياسي للدول النامية.
      ويتركز الانتقاد الثاني: على تحول العلم على يد أبناء الدول غير الأوروبية إلى ممارسة ذهنية مجردة. أما الانتقاد الثالث فهو أكثرها للجدل، حيث هناك من يرى عدم شرعية تقليد غير المسلمين في عقائدهم وأفكارهم ومناهجهم.
      ويخلص المنظرون الإسلاميون الى أن نظريات التنمية والحداثة والعولمة ليست وليدة المرحلة التاريخية المعاصرة، بل أن جذورها تمتد إلى تاريخ تطور العلوم الأوروبية، وإن جاءت الآن بتسميات جديدة. حيث أن معظم مقولات نظريات التنمية قد طرحت في علوم ونظريات مناهج أخرى، وأن التعامل الغربي مع الإسلام تأسيساً قد أخذ مراحل عدة، من الاستشراق إلى الأنثروبولوجيا إلى نظريات التنمية المعاصرة. فالاستشراق تعامل مع العقيدة، والانثروبولوجيا تعاملت مع التنظيم الاجتماعي للإسلام، ونظريات التنمية المعاصرة تعاملت مع النظم السياسية والاقتصادية وانتقالها. ويرون أن هذه النظريات تسقط الخبرة الأوروبية على واقع العالم غير الأوروبي، مستخدمة نسقا ثقافيا مرتكزا على الآتي: القضاء على النسق الثقافي التقليدي، تحقيق علمانية البناء الثقافي وبلورة الوعي الطبقي كأداة للتغيير.
      وفي مقابل الجهد الفكري المبذول لنقد النظريات المعاصرة، فملامح النظرية المنطلقة من المنظور الإسلامي لازالت في عموميتها، ومفهوم «الاستخلاف» لم يؤصل تفصيلياً ومؤسساتياً بصورة يمكن الحديث عن أشياء واقعية كالمسائل التنظيمية، والمؤسسات التقنية. ويمكن القول هنا، إن الجانب النظري للبديل قد طرح بقوة، وهو جانب شرعي إلى حد بعيد، أي أن الشريعة الإسلامية شريعة شاملة لجميع أبعاد حياة الإنسان والمجتمع لا تخضع لتأثر الزمان أو المكان، أو اختلاف طبيعة الإنسان. وبالتالي فإن الاجتهاد الإسلامي في هذا الصدد يتعلق بالإطار أو الآلية.
      ويبقى مفكرو الأمة أمام تحديات كبيرة، تتطلب جهدا في فهم ضرورة تقديم نماذج حضارية إسلامية قادرة على فهم طبيعة الظروف العصرية، وتعمل على اخراج العالم الاسلامي من مأزقة. وربما لنا أن نتساءل: كيف نفهم عالما كان تواقا للحداثة حينما درس العرب أرسطو واخترعوا علم الجبر، واسهموا في الحضارة الكونية، بأن يتحول الى حالة عداء مع الحضارة الغربية أو الكونية؟
      الاندماج مع العالم الجديد يتطلب رؤية جديدة لمفاهيم قديمة فقدت فاعليتها في بناء جسور التواصل مع الثقافة العالمية. إن الجهد النظري نحو إطار إسلامي نظري وعملي يتحدد أيضا بتحديات خلق الإطار في ظل منافسة عالمية، وفي ظل تقدم غربي عقلاني رهيب، فهل يمكن أولاً التطور بشكل مستقل، وكيف؟ وهل تصمد البنية المؤسساتية «الإسلامية» لضغط التأثيرات العالمية؟ وما هي مساحة التفاعل مع الثقافات الأخرى إذا أمكن إيجاد فتوى لها؟ وربما السؤال الأكثر تأثيراً وأهمية في مستقبلنا هو: هل يجوز شرعاً النقل عن غير المسلمين؟ وماذا عن باب سد الذرائع؟

      * أستاذ علم الاجتماع وعميد كلية العلوم الاجتماعية