أنا والحلاق... جديد وحدي أصافح الغيم

    • أنا والحلاق... جديد وحدي أصافح الغيم




      أكره الانتظار في محلات الحلاقة. ثرثرة الحلاقين ومعرفتهم بكل صغيرة وكبيرة في البلد تثير الاشمئزاز. "فلان سافر إلى الهند للعلاج وسيعود بعد أسبوع"، "فلانة خطبت البارحة"، "فلان أمسكت به الشرطة" وغيرها من الأخبار التي لا توجد إلا عندهم.

      أدخل محل الحلاقة متظاهرا بانشغالي بالهاتف النقال، ثلاثة رجال كبار في السن يتحدثون لبعضهم عن مزارعهم التي تضررت بالطريق الساحلي، عن التعويضات التي حصلوا عليها، الآلاف التي حصلوا عليها غير مرضية. أحدهم سافر إلى تايلاند لأسباب خاصة بحجة العلاج. آخر اشترى مبنى في مسقط يدرُّ عليه مالا آخر الشهر. آخر يبحث عن فتاة صغيرة ليتزوجها. أسمع قهقهات أحدهم عندما همس أحدهم في أذنه ببعض الكلمات لم يسمعها غيرهم. اكتفى "بابوه" البنغالي الجنسية بابتسامة عريضة توحي بفهمه تلك الإشارات، لمَ لا وهو الذي تعوَّدَ على سوالف كبار السن بصورة يومية. هو الذي يعدُّ مصدر الأخبار في هذه البلدة. كبار السن هؤلاء يجتمعون عصر كل يوم أمام المحل أو يجلسون داخل المحل لا للحلاقة بل لعرض "سوالفهم"، والحديث عن ذكرياتهم الغابرة. يلتفتُ أحدهم إليَّ قائلا:

      - "ولدي، ولد من إنته؟".

      أجيبه بصوت منخفض. فيعيد السؤال مرة أخرى. هو بالكاد يبصرني، أجيبه باسم أبي فيكتفي بهزّ رأسه ماداً صوته إلى الفضاء. أمسك عصاه بقوة وأطرق رأسه إلى الأسفل. لم يكد يرفع رأسه حتى ثارت الدموع في عينيه، وعاد بذاكرته إلى الوراء متحدثا عن أيام العمل بالكويت، وكيف كان أبي رفيقا صالحا، وأخا شفيقا.

      قطع تلك اللحظة صوت "آرون" عندما ناداني لأجلس على كرسي الحلاق. دبَّتْ سعادة كبيرة في جسدي لأني سأخرج من هذا المكان الذي تختلط فيه أصوات المقصات بضحكات هؤلاء الشيوخ وغمزاتهم.

      عينا "آرون" تتوزع بين رأسي وبين شاشة التلفاز. أتجه ببصري صوب التلفاز، القناة الفضائية البنغلاديشية تعرض تجمهرا كبيرا لشيوخ من بنغلاديش. لم يثرني الأمر في بدايته، لكن حدة أحد الشيوخ في التحدث لمراسل القناة أثارت داخلي حب السؤال، إذ إني لم أفهم أي كلمة مما يقال، وما يظهر أن في الأمر شيئا يستدعي السؤال:

      - وش المشكلة؟!

      رد آرون:

      - هذا حرامي...

      قاطعه بابوه قبل أن يرسل نظرة غضب إلى عينيه. قال بابوه: إن الجميع في هذا الوقت وفي جميع البلدان "ما في زين". أحسستُ أنه يخفي شيئا لا يريدني أن أعرفه أو أنه لا يريد أن يتكلم في مواضيع مثل هذه.

      همس آرون في أذني بصوت خفيف "هذا موضوع غير..." لم أفهم ماذا يقصد، ولم أشأ أن أسأله حتى لا يحرج من سيده في العمل. بابوه حلاق قديم في بلدتنا ومؤخرا أتى بقريبه ليساعده في العمل مع كثرة الرؤوس التي تحتاج إلى تقليم.

      لم أنتبه أن آرون سرح في التلفاز حتى فاجأتني ماكينة الحلاقة وهي تقتطع جزءا من شاربي معها، حاول أن يبرر الموقف، ففاجأته بابتسامة عريضة: "أنت تفكر في باتشاه..".

      بعد يومين أقلب صفحات النت فوجدت سبب الاعتصام الجماهيري في بنغلاديش؛ إنهم يعتصمون غضبا ضد بعض المغردين في مواقع التواصل الاجتماعي. لقد أساء بعض المغردين في بنغلاديش إلى الرسول الكريم في تغريدات مختلفة، فلم يُرْضِ ذلك الفعل الشريحة الدينية هناك.

      الأمر عجيب ويحتاج لأكثر من وقفة، لقد أصبحت كثير من الأقلام التي تعتنق الدين الإسلامي تهاجم الدين في صور مختلفة. فمرة نسمع التطاول على الذات الإلهية، ومرة القدح في الرسول الكريم وعرضه، ومرة بالإساءة لصحابة الرسول وهكذا.

      لقد ولّدت عملية الكتابة عبر مواقع التواصل الاجتماعي نوعا من الحرية "المفرطة" في التعاطي مع القضايا، فتنوعت موضوعات الطرح بين السياسية والأدبية والاجتماعية والتعليمية لكن أن ننادي بمشاريع الكتابة والرقي والثقافة من خلال هدم الدين فذلك لا يرضاه أي مسلم. إن من اعتقد أنه يستطيع أن يمسَّ الدين الإسلامي بأي حجة كانت الإبداع/ الانفتاح/ الثقافة، هو مخطئ في ذلك لا محالة، فإن ثوابت هذه الأمة ومعتقداتها راسخة رسوخ الجبال في قلوب المؤمنين وإن اختلفت لغة التعبير والكتابة، فها نحن نجد من يثور لاسم الحبيب المصطفى رغم البعد واللغة التي جهلناها نحن.

      أقول ذلك كلما تذكرت شاربي لحظة النظر إلى المرآة، متناسيا ذلك الرجل الطاعن في السن الذي لا يزال يحلم بفتاة تسكن صدره دون أن يكون له أي تفكير بقضية أخرى سواها.



      المصدر : مدونة وحدي أصافح الغيم