إشكالية الهوية العربية في مواجهة تحديات العولمة

    • إشكالية الهوية العربية في مواجهة تحديات العولمة


      الاعضاء والزوار الكرام

      من اجل محبي الاطلاع والمعرفة والاستفادة

      نطرح هذا الموضوع القيم متمنين لكم الاستفادة من مضمونه




      إشكالية الهوية العربية في مواجهة تحديات العولمة

      اعداد :
      أ‌. سمايلي محمود - جامعة قسنطينة-
      أ‌. بن عمارة سعيدة- جامعة سطيف.

      الملخص


      إن مشكلة الهوية في المجتمعات العربية أصبحت تطرح نفسها بشكل كبير ما دمنا نعيش في عصر سمته التغيير و التحول ، فليس غريبا أن تثار هنا و هناك أسئلة حول التحول و التبدل الذي أصاب مجتمعاتنا العربية و الذي خلق اختلافات في توجهاتنا و شكك في ولاءنا لثقافتنا و حضارتنا.
      و أن التطور المصاحب للعولمة و آلياتها ساهم بشكل اكبر في تجسير هذه الهوة فأصبح منا من يهلل لها و يعتبرها ثراء لثقافتنا و حضارتنا و بالتالي إحياء لهويتنا ومصدر تحررها ، و منهم من رفضها و قاومها بحكم تناقضاتها و تعاليها على قيم و ثقافات هذه الشعوب ..
      انطلاقا من هذه الإشكالية سنحاول مناقشة مدلول الهوية و العولمة في المجتمعات العربية في ظل النقاش القائم حول هذين المفهومين ، مع محاولة طرح تصور مستقبلي للهوية
      العربية في ضوء هذه التحديات التي تعيشها مجتمعاتنا.


      مقدمــة


      إن إشكالية البحث عن الهوية ليست إلا أطروحة للتحول الحضاري و النهضة و البحث عن صياغة جديدة لتاريخ الأمم و الشعوب، و قد كان البحث عن الهوية بمثابة الشغل الشاغل للإنسان على مر العصور غايته و هو بصدد البحث الدائم عن هويته هي صياغة لنموذجه الحضاري ،و لا يصبح الإنسان باحثا عن هويته إلا في عصر التحولات و تغير النماذج الإرشادية الحاكمة و تبدل المسلمـات و تميع الهويات (1) ، و ما دمنا نعيش في هذا العصر الذي يتسم بالتحـولات و التغيرات المتسـارعة ، فليس غريبا أن تكون مسألة الهوية التساؤل الحيوي الذي يطرح نفسه بإلحاح في عصر العولمة و ذلك من اجل تأكيد الذات ، و لذا تعتبر إشكالية الهوية من اعقد المشكلات التي تواجه الكثير من الشعوب و المجتمعات الحديثة في العصر الراهن سواء في ذلك المجتمعات ذات الأصول الحضارية القديمة ، أو حتى تلك التي تفتقد الانتماء الحضاري القديم ، و ذلك لأن الهوية هي المفتاح التي يمكن للفرد عن طريقه أن يتعرف إليه الآخرون باعتباره منتميا إلى تلك الجماعة .
      لقد شغلت العولمة بتجلياتها السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية العالم كله ، و قد كان لها الأثر الكبير في التأثيرات التي تعرفها مختلف المجالات و لعل أبرزها مشكلات الهوية و التعددية الثقافية، و في ظل واقع تستغله الدول الكبرى التي تحاول أن تدفع بالعولمة كعملية تاريخية في اتجاه التبني القسري لأوضاع الدول بما يخدم مصالحها القومية (2) ، و في هذا الإطار فهناك نزعة إلى الهيمنة الثقافية تجعل الهويات المختلفة و التي عادة ما تعبر على خصوصيات ثقافية راسخة نتيجة عمليات التراكم التاريخي في مواجهة مباشرة مع العولمة ، و الوطن العربي ليس بمنأى عن هذه التأثيرات التي تهدد امن هويته و تجعلها عرضت لمختلف المخاطر المترتبة عنها ، و هو ما يجعلنا نتساءل على مستقبل الهوية العربية في مواجهة تحديات العولمة ، وللإجابة على هذا التساؤل ينبغي التوقف عند مفهومي الهوية و العولمة مصطلحا و إشكالا ، و مناقشة مختلف مراحل التشكل النظري لموضـوع الهويـة و العولمة، إلى جانب تحديد طبيعة الإشكالات و التحديات التي تواجهها الهوية العربية في عصر العولمة و في الأخير الرؤية المستقبلية الهوية العربية في ظل هذه التحديات .



      1- مفهوم الهوية


      لقد طرحت عدة تعريفات لمصطلح الهوية من طرف العديد من المفكرين و الباحثين، و إن كان الاهتمام بهذا المصطلح ليس بالحديث لكونه برز قديما مع ظهور البوادر الأولى للنهضة الأوروبية، أما في البلاد العربية فقد عرفت هذا المفهوم مع الحملة الأوروبية الاستعمارية، لذا نجد من الصعوبة أن نجد تعريفا واحدا محددا لها ،فتعريفات الهوية تختلف في بعض الأحيان وتتقارب في أحيان كثيرة. و قبل الخوض في هذا الموضوع ينبغي الإشارة إلى طبيعة هذا المفهوم حتى تتضح الرؤية أكثر.

      1-1-التعريف اللغوي و الفلسفي :

      حاول الدكتور محمد عمارة تقديم تصور شامل لمفهوم الهوية لغة و اصطلاحا مستعينا بالمعاجم القديمة و الحديثة ، فـقال فـي هـذا الصدد : إن " الهـوية " بضم الهاء- مصطلح اسـتعمله العرب و المسلمون القدماء و هو منسوب إلى " هو" و هذه النسبة تشير إلى ما يحمله من مضمون .
      و يعرف المعجم الوسيط الهوية بأنها : "حقيقة الشيء أو الشخص التي تميزه عن غيره ، أما المنظور الفلسفي لمصطلح "الهو" بوصفها مكونة "من خصائص الشيء، أو الشَّخص، المطلقة ، المشتملة على صفاته الجوهرية التي تجعله مميزاً عن غيره تَمَيُّزاً يُكسبه فرادته وخصوصيته، ويُحدِّد الصُّورة التي يحملها في نفسه عن نفسه، والتي ستؤثِّر، بطريقة أو بأخرى، في تحديد المنظور الذي سيعتمده لإحالة ذاته إحالةً موضوعيةً في العالم، والذي سيُطلُّ من خلاله على الآخرين ليرسم الصُّورة التي سيكونها في نفسه، ولنفسه عنهم. أما قاموس أكسفورد فانه يعرف الهوية بوصفها :" حالة الكينونة المتطابقة بأحكام ، أو المتماثلة إلى حد التطابق التام أو التشابه المطلق" (3) .
      إذن فإن المفهوم اللغوي للهوية يتعلق بالتطابق الموجود ما بين باطن الشيء و ظاهره .

      1-2- مفهوم الهوية :


      لقد عرف مفهوم الهوية تطورا تاريخيا بحسب خصائص المرحلة التي وجد فيها ، و ظهور المفهوم كان بداية في كتابات الفيلسوف و المؤرخ الألماني الاجتماعي "فلهلم دلتاي" وقد جعله ماكس فيبر على مستويين يتعلق أولهما بما يطلق عليه دلتاي اسم الصورة الكونية التي تؤلف الكتلة الأساسية للمعتقدات والمسلمات الافتراضية عن العالم الحقيقي الواقعي، التي يمكن في ضوئها وبالإشارة إليها يمكن الوصول إلى إجابات شافية حول مغزى الكون والوجود. أما المستوى الثاني فيتعلق بالسياق التصوري الواعي والإرادي الذي تضع فيه الذات الجمعية نفسها ضمن تقسيمات العالم الواقعية أو المركبة من النواحي الثقافية في الأصل، لكن أيضا من النواحي الأخلاقية والاجتماعية والثقافية(4).
      هذا و قد كان لعالم النفس إ. اريكسون دور مهم في انتشـار استخدام هذا المفهوم بفعـل الدراسـات و الأبحاث التي قام بها داخل المحميات الهندية من خلال دراسة قبائل الهنود التي تقطن بالمناطق الجنوبية و الشمالية للولايات المتحدة الأمريكية ، حيث كان الاجتثاث الثقافي لهؤلاء الهنود المعرضين لموجة الحداثة ، فخلص في دراسته التي جاءت في كتابه "طفولة و مجتمع" إلى اعتبار أن الهوية الشخصية تتطور طوال وجودها عبر ثمانية مراحل تقابلها ثمانية أعمار في دورة الحياة و أزمة الهوية حسب اريكسون تتطابق مع تحول يقع في مسيرة تطور الهوية (5) ، و هذا المصطلح الذي أشار إليه و يقابله مصطلح إشكالية الهوية اليوم.
      أما مدلول مصطلح الهوية في العلوم الإنسانية و الاجتماعية فقد انتشر و تطور باستعماله لمفاهيم مشابهة له كمفهوم التكنه الذي ارتبط بعلم الاجتماع عبر نظرية الأدوار و نظرية " الجماعة المرجعية" ، حيث فسره "نيلسون فوت" على انـه استعارة الفرد الواحد لهويـة واحدة أو لسلسلـة من الهويات ، و التكنه حسبه هو السيرورة التي تمكن من فهم لماذا نبحث عن القيام بدور ما، أما نظرية مجتمع المرجعية فهي ترى بأن "الجماعة هي التي تحدد للفرد هويته عبرها و في إطارها يستعير قيمها و معاييرها بدون أن يكون بالضرورة عضوا فيها." و قد كان لهذا المفهوم أهمية حاسمة في علم اجتماع بواسطة مدرسة التفاعلية الرمزية لاهتمامها بالطريقة التي تتشكل عبرها التفاعلات الاجتماعية و كيفية بناء الأنساق الرمزية المشتركة ووعي الفرد بنفسه و هذا يعتبر بحث في صميم إشكاليـة الهوية (6).
      إذن فانتشار كلمة الهوية و توسع استخدامها في علم اجتماع بالولايات المتحدة الأمريكية كان في الستينات حتى أصبح من المستحيل كما قال " كليزون" أن نحدد المعنى الدقيق لاستخدامات هذا المفهوم ، كما أن الوضع السياسي بأمريكا ساهم هو الأخر في ترسيخ اصطلاح الهوية و فرضه على لغة الإعلام و على التحليل الاجتماعي و السياسي بفعل الحركات التي عرفتها الأقليات الأمريكية المطالبة بالاعتراف بخصوصيتها و التي كانت بمثابة صحوة هوية حقيقية في سنوات السبعينات حسب ما أشار إليـه عالم الاجتماع الأمريكي روجر بروباكر ، وواصل المصطـلح انتشاره في فتـرة الثمانيـنات و التسعينات بحيث أصبح من غير الممكن تجاوز هذا المفهوم لا في الأبحاث المتعلقة بالهجرة و لا بتلك المتعلقة بالمسألة القومية و الدين و دراسات النوع و غيرها (7) بفعل الحداثة المتقدمة كما اسماها انوطوني جيدن فالناس في هذا الزمان أصبحوا يتساءلون عن كل شيء مما جعل سلوكهم مترددا باستمرار ، وفي هذا يوجد مفتاح الهوية بالنسبة "لكوفمان" الذي يرى بأن "الفكر المسؤول يندرج ضمن منطق الانفتاح فهو يحطم اليقينيات و يشكك فيما اعتبر مكسبا نهائيا ،على خلاف لا تكف الهوية عن جمع الشظايا و تركيبها ، فهي نسق مستقر يحفظ المعنى و يسيجه ، و نموذجها هو الكلية " (8) .
      أما في البلاد العربية فإن مفهوم الهوية ظهر متأخرا مقارنة بالدول الغربية ، إلا أن ظهور سؤال الهوية على سطح الجدل والوعي العربي الإسلامي قد برز مع حمأة جدل النهضة والتخلف ذاته، ومع تفجر الحديث عن المرجعية التشريعية والقيمية منذ حكم الخديوي إسماعيل في مصر، وإقرار نظام الحكم العثماني سنة 1875، وتواتر الحديث عن الرابطة والجامعة السياسية منذ أواخر القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين، هل هي رابطة وطنية أم شرقية أم إسلامية... إلخر و إن كان المفهوم قد صيغ في شكل سؤال أساسي يدور حول التخلف و التقدم (لماذا تخلفنا و تقدم غيرنا) ، بحيث كان يبحث عن العلة و السبب و قد دار هذا السؤال الرئيسي حول ثلاث أسئلة فرعية :
      1- هل ينبغي طرح الحداثة الغربية كنموذج بحيث تمثله و التزامه خاصة بعد أن أصبح تفوق الحضارة الغربية و الاستعمار واقعا لا يمكن إنكاره، و هو السؤال الذي نشط مفهوم

      الهوية كتعبير عن الخصوصية .


      2- الجدل القائم حول دوائر الانتماء الثقافية و الجغرافية المختلفة من الانتماء الإسلامي إلى الانتماء الوطني و القومي العربي في أوائل القرن العشرين إلى المشرقية و المغربية و إلى المتوسطية و الإفريقية في أواخر القرن العشرين ، و هذا ما زاد الهوية تساؤلا بسب عدم الحسم في هذا الانتماء.
      3- بروز ما يسمى بعنصر القومية دوليا و عربيا ، و محاولة لإبراز الدولة الوطنية كطريق للوحدة (state Nation) خاصة التطور اللغوي و الثقافي باعتبارها بمثابة حلا لمسألة التنوع الديني ، إلا أن هذه الوضعيـة قد تفجـر مسألة التنـوع العرقي كمسألة البربريـة في المغرب العربي و السودان و الطائفية في لبنان و العراق .
      ومن هنا يمكن القول أن مفهوم الهوية Idendity في مدلوله الحديث لا يخرج عن التشخص والشخصية وهو ما قال به ابن حزم بأنه: "هو كل ما لم يكن غير الشيء فهو هو بعينه، إذ ليس بين الهوية والغيرية وسيطة يعقلها أحد البتة، فما خرج عن أحدهما دخل في الآخر". وهو ما التمسه الأستاذ جميل صليبا حين عرفها بأنها "المميز عن الأغيار". وهي تستخدم بمعنى الهيئة، والأوصاف الظاهرة، ويأتي مقابلا لها الأوصاف النفسية والجوهر. وفي اتجاه المقابلة بينها وبين الغيرية حددها الدكتور جميل صليبا بتحديدها على أنها "المميز عن الأغيار" (9).
      إن مفهوم الهوية كما سبق إيضاحه قد عرف صعود قويا بفعل الصراع الدولي و الثقافي الذي عرفته المجتمعات البشرية إلى جانب الدراسات التي قدمت في العلوم الإنسانية و الاجتماعية ، و هذا ما أوضحه المؤرخ الفرد كروسر بقوله :"إن القليل من المفاهيم هي التي حظيت بالتضخم والاهتمام الذي عرفه مفهوم الهوية، حيث أصبحت الهوية شعارًا طوطميا وأصبح بديهيا أن يحل كل الإشكاليات المطروحة، فصرنا نسمع عن خطاب الهوية، أي تلك الخطابات التي تقوم في أسسها الفكرية على تصور خاص للهوية، يمكن التمثيل لها بالتيارات القطرية والقومية والوحدوية والإسلامية، كما نسمع عن سياسات الهوية أي السياسات التي تمثل الهوية مصدرا لشرعيتها وسندا لها كحقوق الأقليات في تقرير مصيرها أو الصراعات الأهلية وسلطات الحكم الذاتي... إلخ (10) .
      والهوية تتحقق في مجال الاتصال بالآخرين، حتى يصح القول إن هوية الفرد الواحد تتبدل حسب اتصالاته ومواقفه ومواقعه المختلفة؛ فالهوية معطى من الآخرين وانعكاس ظاهر وكامن لمواقفنا منهم وردود فعلنا عليهم، فهي رغم ثباتها فإنها صيرورة في التاريخ كذلك.
      إذن فمفهوم الهوية تصاعد مع الاستقطاب الحضاري بين الغرب والآخرين، في ظل الحرب على الإرهاب وانتشار وتناول دعاوى الحوار الحضاري، حيث تترادف الهوية فيه مع الثقافة كمنظور ورؤية للعالم.
      ومن هنا نستطيع القول إن الهوية الحضارية لأمة من الأمم، هي القدر الثابت و الجوهري و المشترك من السمات و القسمات العامة، التي تميز حضارة هذه الأمة من غيرها من الحضارات، و التي تجعل للشخصية القومية طابعا تتميز به عن الشخصيات القومية الأخرى (11) .

      2- مفهوم العولمــة

      لقد عرف الفكر الإنساني في أواخر القرن الماضي سلسلة متلاحقة من المصطلحات الجديدة في السياسة و الاقتصاد و الفكر و الدين بصورة جعلت العقل الإنساني يجد صعوبة في التأمل و التمعن فيها مم صعب عليه تفكيكها و استيعابها ، و قد كان مصطلح العولمة واحد من احدث المصطلحات التي عرفتها المجتمعات الإنسانية المعاصرة و الذي كان محور اهتمام العديد من الباحثين و المفكرين محاولين وضع و تحديد معنى لهذا المصطلح، فالبرغم من هذه المحاولات إلا أن المفهوم ما يزال يحمل قدرا كبيرا من الغموض باعتباره موضوع شائك و نقطة خلافية بين الكثيرين و قضية مثيرة للجدل في شتى أنحاء العالم ، و لعل مرد هذا الاختلاف كما يراه البعض لسعة المدلولات التي تعبر عنها الكلمة و الخلط بين المفاهيم المشابهة له مثل الكوكبية ، و العالمية ، الدولية ..... .الخر.

      2-1:العولمة لغويا و اصطلاحيا:


      يعني تعميم الشيء وإكسابه الصبغة العالمية وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله. يقول عبد الصبور شاهين عضو مجمع اللغة العربية " العولمة مصدراً فقد جاءت توليداً من كلمة عالم ونفترض لها فعلً هو عولم يعولم عولمة بطريقة التوليد القياسي … وأما صيغة الفعللة التي تأتي منها العولمة فإنما تستعمل للتعبير عن مفهوم الأحداث والإضافة ، وهي مماثلة في هذه الوظيفة لصيغة التفعيل.
      أما اصطلاحا فتعرف على أنها ظاهرة تتدخل فيها أمور السيـاسة و الاقتصاد و السلـوك و الثـقافة و الاجتماع ، و على الراغب في الانسجام في تلك المنظومة أن يقوم بعملية تكييف لاتجاهاته و نمط تفكيره مع قيم و طريقة التفكير التي تتطلبها تفاعلات العولمة (12).

      2-2- تطور مفهوم العولمة:


      إن تطور مفهوم العولمة شأنه شأن مصطلح الهوية ، فبالرغم من حداثته كمصطلح إلا أن امتداداته قديمة باعتباره عملية تاريخية جذرية مرت بعدة مراحل ترجع إلى بداية القرن الخامس عشر زمن نشأت المجتمعات القومية حيث برز بظهور ظاهرة الدولة القومية في أوروبا محل الإقطاعية و اتساع رقعة السوق . ويشير بعض الباحثين إلى إن نشأة العولمة كانت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر و النصف الأول من القرن العشرين إلا أنها عرفت تناميا سريعا في السنوات الأخيرة، و هذا ما أشار إليه إسماعيل صبري بقوله " إن ظاهرة الكوكبية )العولمة( كما يسميها نشأت و تنامت في النصف الثاني من القرن العشرين ، وهي حالياً في أوج الحركة فلا يكاد يمر يوم واحد دون أن نسمع أو نقرأ عن اندماج شركات كبرى ،أو انتزاع شركة السيطرة على شركة ثانية ." فهو يتفق في ذلك مع جورج طرابيشي لما اعتبر "العولمة ظاهرة تاريخية لنهاية القرن العشرين و بداية القرن الحادي و العشرين "(13).
      كما كان للخطاب السياسي الغربي دورا في بروز هذا المصطلح من خلال التحريض على إقامة حكومة عالمية أو نظام عالمي مالي موحد و التخلص من سيادة القومية حيث تجلت هذه المطالب في خطاب هتلر أمام الرايخ الثالث في قوله " سوف تستخدم الاشتراكية الدولية ثورتها لإقامة نظام عالمي جديد" ، و هذا ما تضمنه إعلان حقوق الإنسان الثاني سنة 1973 في إشارته لتقسيم الجنس البشري على أسس قومية حيث يورد في إحدى فقراته: " لقد وصلنا إلى نقطة تحول في التاريخ البشري حيث يكون أحسن اختيار هو تجاوز حدود السياسة القومية ، والتحرك نحو بناء نظام عالمي مبني على أساس إقامة حكومة فيدرالية تتخطى الحدود القومية" ، و قد تبلورت فكرة العولمة قديما أيضا عندما اقترحت رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر فكرة العولمة كوجهة نظر اقتصادية التي عرفت باسم "التاتشرية " حيث تهدف هذه الفكرة إلى جعل الغني أغنى و الفقير أفقر و هكذا فقد تطور هذا المفهوم إلى ما هو عليه اليوم (14) .
      عند تفحص الأدبيات التي تناولت مصطلح العولمة نلاحظ أنها أفرزت اتجاهين أساسين:
      الاتجاه الأول العولمة باعتبارها غزو ثقافي و شكل أخر لاستعمار جديد للعالم ، من قبل دول عظمى تسعى لتعميم النموذج الغربي و من أهم التعاريف التي أخذت بهذا الاتجاه تعريف عابد الجابري حيث يقول في مقاله"العولمة و الهوية الثقافية": هي"ما بعد الاستعمار و أنها مجرد آلية من آليات التطور الرأسمالي يعكس إرادة الهيمنة على العالم حيث يرى أنها بهذا الشكل تعمل على تعميم نمط حضاري يخص بلداً بعينه ، وهو الولايات المتحدة الأمريكية بالذات على بلدان لعالم أجمع"(15) .
      إذن فهي بهذا التعريف تكون العولمة دعوة إلى تبنى إيديولوجية معينة تعبر عن إرادة الهيمنة الأمريكية على العالم .
      أما صادق جلال العظم ففي مقاله "ما العولمة ؟" يقول بأن العولمة هي عقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء في ظل هيمنة دول المركز بقيادتها و تحت سيطرتها و في ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ " (16).
      و قد رأى محمد الأطرش"أن العولمة تعني بشكل عام اندماج أسواق العالم في حقول التجارة والاستثمارات المباشرة ، وانتقال الأموال والقوى العاملة والثقافات والتقانة ضمن إطار من رأسمالية حرية الأسواق ، وبالتالي خضوع العالم لقوى السوق العالمية ، مما يؤدي إلى اختراق الحدود القومية وإلى الانحسار الكبير في سيادة الدولة ، وأن العنصر الأساسي في هذه الظاهرة هي الشركات الرأسمالية الضخمة متخطية القوميات ". أما المفكر برهان غليون فيرى أن العولمة تتجسد في نشوء شبكات اتصال عالمية تربط جميع الاقتصاديات والبلدان و المجتمعات و تخضعها لحركة واحدة "(17)
      من خلال ما سبق يتضح أن تعريفات هذا الاتجاه تركز في مفهومها للعولمة على صياغة إيديولوجية للحضارة الغربية من فكر وثقافة واقتصاد وسياسة للسيطرة على العالم أجمع باستخدام الوسائل العلمية، والشركات الرأسمالية الكبرى لتطبيق هذه الحضارة وتعميمها على العالم.
      أما الاتجاه الثاني فيرى على أنها تغيرا اجتماعيا نحو الأفضل ،و السبيل الأوحد للإنسانية للتخلص من مخلفات القطبية الثنائية من خلال انفتاح العالم على بعضه البعض و انتشار المعرفة و التطور التكنولوجي و زيادة الترابط و التوازن بين المجتمعات عن طريق التبادل الثقافي و التجاري . و من أهم التعاريف التي تبنت هذا الاتجاه تعريف "جيمس روزناو" الذي حدد ثلاث أبعاد في تعريفه للعولمة أولها يتعلق بانتشار المعلومات على نطاق واسع ، و ثانيها تذويب الحدود بين الدول ، أما البعد الثالث فيتمثل في زيادة معدلات التماثل بين الجماعات و المجتمعات و المؤسسات " (18).
      وعرفها بعضهم بأنها : “الاتجاه المتنامي الذي يصبح به العالم نسبياً كرة اجتماعية بلا حدود . أي أن الحدود الجغرافية لا يعتبر بها حيث يصبح العالم أكثر اتصال مما يجعل الحياة الاجتماعية متداخلة بين الأمم " ،هذا و قد تبنى صندوق النقد الدولي التعريف التالي بوصفها"التعاون الاقتصادي المتنامي لمجموع دول العالم والذي يحتّمه ازدياد حجم التعامل بالسلع والخدمات وتنوعها عبر الحدود إضافة إلى رؤوس الموال الدولية والانتشار المتسارع للتقنية في أرجاء العالم كله" . أما الأمين لعام لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والنمو بأنها :”العملية التي تملي على المنتجين والمستثمرين التصرف وكأن الاقتصاد العالمي يتكون من سوق واحدة ومنطقة إنتاج واحدة مقسمة إلى مناطق اقتصادية وليس إلى اقتصاديات وطنية مرتبطة بعلاقات تجارية واستثمارية".
      أما "اسماعيل صبري" فيعرفها بأنها هي" التداخل الواضح لأمور الاقتصاد و السياسة والثقافة والسلوك دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة أو انتماء إلى وطن محدد أو لدولة معينة ودون الحاجة إلى إجراءات حكومية (19).
      من خلال التعريفات السابقة للعولمة يتضح أنها تركز على النواحي التجارية والاقتصادية التي تتجاوز حدود الدولة مما يتضمن زوال سيادة الدولة ، حيث أن كل عامل من عوامل الإنتاج تقريباً ينتقل بدون جهد من إجراءات تصدير واستيراد أو حواجز جمركية ، فهي سوق عولمة واحدة لا أحد يسيطر عليها كشبكة الانترنت العالمية .
      بشكل عام يمكننا القول أن هناك ثلاث جوانب أساسية في تعريف العولمة باعتبارها ظاهرة اقتصادية ، و هيمنة القيم الأمريكية ،و أخيرا بوصفها ثورة تكنولوجية و اجتماعية .
      3- التشكل النظري و الفكري لموضوع الهوية و العولمة:
      إن بدايات التشكل النظري و الفكري لموضوع الهوية و العولمة برز لأول مرة مع المفكر مانويل كاستلر من خلال مرجعه المتعلق بمجتمع المعلومات العالمي و الذي تناول في جزءه المتعلق "بالمجتمع الشبكي " الملامح الأساسية للمجتمع العالمي الجديد من زاوية بنيته السياسية و الاقتصادية و الاتصالية، فيما تناول في جزءه الثاني المتعلق "بقوة الهوية " مختلف أنواع الهويات Identity و التي عبرت عن نفسها في مواجهة العولمة .
      كما شكلت أطروحة عالم السياسة الأمريكي صمويل هينغتون عن "صراع الحضارات " ميدان خصب للصراع الفكري العالمي حول موضوع الهوية و العولمة ، و الذي كان يرى من خلاله بأن "الحضارة الغربية سوف تدخل في حالة صراع مع بقية الحضارات الأخرى ، و عليها أن تستعد لذلك باتخاذها الاحتياطات اللازمة و توفير الشروط الضرورية لحسم هذا الصراع لصالحها ". و أصل الصراع حسبه سيقوم على الهوية الثقافية و خصوصياتها و مبدأ التناقض و الاختلاف بينهما. حيث يقول "أن غربا في أوج قوته يواجه كيانات لا ترغب في تشكيـل العالم بطريقة غير غربية ، و لديـها الإرادة و الإمكانيات للقيام بذلك ." عموما إن رؤية هينغتون تقوم أساسا على تمحور السياسات العالمية حول النزاع بين الغرب و بقية العالم The west and the rest ، و ردود الحضارات غير الغربية على القوة و القيم الغربية (20).
      كما برزت مؤلفات ساهمت هي الأخرى في تشكل هذا الصراع كـكتاب "نهايـة التاريخ " لـفوكاياما و كتاب "صعود و هبوط الإمبراطوريات " لبول كيندي ، و كتاب" الموجة التالية " لتوفلر و جميعها كانت اتجاهاتها تصب في سياق المشروع الفكري للدول المتقدمة في فهمها للعولمة و الكوكبية الاقتصادية و ذلك باستكشاف أفاقها و فرصها و تحدياتها و مساراتها المستقبلية.
      و في مقابل هذه الرؤية برزت عدة كتابات و أراء مدافعة على الهوية الوطنية للشعوب في مواجهة أفكار العولمة و رافضة في نفس الوقت فكرة هينغتون ، حيث وقفت أطروحة الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي الذي دعا في خطاب ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى حوار الحضارات و الذي لقي موافقة الجميع و أصدرت بشأنه الأمم المتحدة قرارا يعتبر فيه عام 2001 عام حوار الحضارات.
      هذا و قد كان لكتاب " العولمة و الجنوب " لكرولين طوماس و بيتر ولكين دور في كشف الوجه الخفي للعولمة باعتبارها آلية لتكريس الفوارق بين الشمال المتخم بالغنى و الجنوب الذي يعاني من الفقر المدقع ، كما أبرزت الكاتبة فيفيان فورستر صورة متشائمة عن العولمة في كتابها "الرعب الاقتصادي " حيـث عرضت السؤال الأتي : ما الذي يحصل عندما نعلم أنه لـيس ثمة أزمات ، بل مجرد تبـدل و تحول يقودان مجتمعا بأكمله ، بل و حتى حضارة بأجمعها إلى المجهول (21).
      تأسيسا على سبق يمكن تحديد ثلاث عوامل أساسية ساهمت بشكل اكبر في تشكل هذا الموضوع:
      1- الصراع الايديلوجي الفكري :
      إن بروز أفكار و اتجاهات ايديلوجية في صورة تشكيلات و تعابير عن الهويات كرد فعل للعولمة التي تريد أن تفرض مقاييس موحدة على العالم و بغض النظر عن المراحل التاريخية و الاجتماعية للدول الأخرى ، أو بتجاهل ثقافاتها المختلفة و هذه التعابير الثقافية عن الهويات الجماعية ستتجسد في صورة حركات ذات طابع ديني أو قومي أو عرقي في مواجهة هذه الأفكار ، و هذا ما شهده العالم في السنوات الأخيرة من موجات متعددة لهذه الحركات و التي حملت عدة تعبيرات مختلفة تسعى إلى تحدي العولمة كتعبير على هويتها و خصوصيتها الثقافية .
      2- تطور منظومة الإعلام و الاتصال العالمية :
      شكلت وسائل الإعلام و الاتصال التي استخدمتها العولمة في التعبير عن قيمها و أفكارها موجة حادة في الصراع بينها و بين الهوية ، خاصة في ضوء انتشار وسائل الاتصال الحديثة كالانترنت التي أصبحت بمثابة الأداة الفعالة التي تلجأ إليها الدول الكبرى في إيصال قيمها و أفكارها بحكم سيطرتها على مجالات استخداماتها و تحكمها في مصادر صناعة و تقديم المعلومات بالشكل الذي يوافق مصالحها و يخدم قيمها ، و قد كان لتطور هذه الوسائل بروز شبكات عالمية مثل حرب الشبكات Netwar التي استخدمت كأداة في شن حملات إعلامية واسعة لصالح العولمة و قد كان تأثيرها باديا في الميادين العسكرية في حرب العراق، و اقتصاديا ضد الصين ، و إعلاميا في مواجهة المد الإسلامي . فقد أصبح النظام الإعلامي العالمي بوسائله السياسية و الاقتصادية و الثقافية يؤثر بشكل مباشر على قيم و عادات و أساليب حياة الشعوب التي تنتمي إلى ثقافات متنوعة .
      3- التطور التكنولوجي و المعرفي :
      تعد ثورة تكنولوجيا المعلومات من أهم العوامل التي ساهمت في تغذية الصراع بين العولمة و الهوية و الذي أدى إلى ظهور صيغة جديدة للمجتمع العالمي أطلق عليه اسم" المجتمع الشبكي " ثقافته تستمد مسلماتها من عالم افتراضي Virtual و نسق إعلامي يتسم بنفاذه إلى إرجاء الكون بحيث تكون وحداته متصلة فيما بينها اتصالا وثيقا.

      4- إشكالية الهوية العربية و تحديات العولمة .


      إن الهوية بتداخلاتها الانتربولوجية و السوسيولوجية و السياسية و الثقافية سواء أكانت ثقافيـة أم قوميـة أم هويـة أثنيـة تشكل مفهوم مكونـا من التداخلات المعرفيـة المحكومة بالمتن الاجتماعي و بالصيرورة التاريخية، و من الصعب الانفكاك منهما .
      إن مسألة الهوية في الوطن العربي قديمة لارتباطها بالخطاب القومي الذي ساد إبان مرحلة التحرر من الاستعمار ، فهي تعتبر لدى بعض من الباحثين العرب ليست إلا شكلا جديدا للقومية يعبر عن نفسه بتعابير التناقض الإيديولوجي ، فالشعوب التي كانت مستعمرة تعاني في الواقع الحالي عواقب عصرنة تهدد القيم الخاصة التي بني عليها سابقا الإجماع ضد المستعمر.
      فالإشكال المطروح في المجتمعات العربية لدى العديد من الباحثين هو لماذا كثر الكلام عن الهوية في هذا الوقت بالذات من أي وقت مضى ؟ و لماذا باتت الهويات مهددة ؟ و لماذا انطلقت موجة المطالبة لبعض الأقليات في البلاد العربية بهويتها ؟
      إن الجواب عن هذه الأسئلة يرتبط من دون شك بتداعيات أفكار و قيم الحداثة المصاحبة للعولمة لكون خطاب الهوية أصبح يطرح نفسه بوصفه خصوصية ، و على هذه القوميات أن تعترف بها و تحافظ عليها و أن لا تهددها مستغلة حركة العولمة و آلياتها الرامية إلى إزالة الحواجز بين المجتمعات المصحوبة باحتدام و تأجج الهويات الخاصة سواء أكانت عقائدية ، أو قومية ، أو عرقية .
      إن سياسة العولمة في هذا المجال تستهدف الهويات القومية و مقوماتها الرئيسية و قد ساهمت عوامل عدة في إذكاء الطابع العدائي للعولمة اتجاه بعض الهويات القومية المختلفة سواء كانت عربية أو أجنبية مصنفة إياها في خانة الدول المارقة كما عبر عنها هينغتون لأنها تقف في وجه تطور قيم الرأسمالية (22).
      كما أن الاهتزاز الذي أصاب الهوية العربية نتيجة تغير الأدوار التقليدية للنخب الاجتماعية المناهضة للفكر الاستعماري الٍرأسمالي إلى نخب تتبنى فكر اندماجي ساهم في إضعاف و تماسك هوية المجتمع العربي ، و أدى إلى بروز تيارات فكرية و إيديولوجي ذات طابع ديني و عرقي متطرف مناهضة لمفهوم الدولة القومية مهـد بدوره الطريق أمام الدول الكبرى بأن تشن حملة إعلامية ثقافية و سياسية و اقتصادية لمحاربة هذه التيارات و إن كانت حقيقة هذه الحملة موجهة نحو الهـوية العربية بالأساس و هو ما يجعل مسألة الهوية ترتبط ثقافيا و سياسيا و اقتصاديا بآليات العولمة، و قد تبلورت أهداف هذه الأفكار خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر في صورة مبادرات و تقارير و مشاريع موجهة نحو الوطن العربي متهمة دينه وتقاليده ونظم تعليمه بأنها مصدر للإرهاب، وأنها بيئات تولد نوازع العنف والاعتداء على الغير وأصدرت التقارير والإشارات لتغيير مناهجنا العربية" (23).
      فالولايات المتحدة الأمريكية أعلنت في إطار هذه المشاريع بأنها ستعمل على نشر القيم و السلوك الأمريكي في العالم كله في إطار ما يسمى محاربة العدو خارج حدود الدولة الأمريكية في إطار حربها على الإرهاب ، و هو ما يفتح باب الغزو للشعوب و عقائدها و ثقافتها فالعولمة بالرغم من الصيغة الاقتصادية لها فإنها تعمل من اجل أهـدافا أخرى تطال ثـقافة الشعوب و هويتها القومية و الوطنيـة و مصالحها و خصوصياتها بتعميم نماذج و أنماط من السلوك و منظومات من القيم و طرائق التفكير و قد أشار الجابري في هذا الصدد إلى مجموعة من الخصائص التي تحملها العولمة بحكم طبيعتها ثقافة الاختراق لكونها تقوم على جملة أوهام ، تهدف إلى التطبيع مع الهيمنة، وتكريس الاستتباع الحضاري، فهي تتولى القيام بتسطيح الوعي، واختراق الهوية الثقافية للأفراد والأقوام والأمم، من خلال: غرس "وهم الفردية" لتضيق خناق الفرد داخل أسوار نفسه. و غرس "وهم الخيار الشخصي" لتكريس النـزعة الأنانية، وغرس "وهم الحياد" لتكريس التحلل وعدم الارتباط بأي قضية. وهي كلها أوهام تجعل الفرد قابلا للاستعمار كما يقول مالك بن نبي. كما أنها تعمل على إفراغ الهوية الجماعية من كل محتوى، وتدفع إلى التفتيت والتشتيت ليربط الناس بعالم اللاوطن واللاأمة واللادولة(24).
      و من ثم فهي تحمل ثقافة تغزو بها ثقافات و مجتمعات أخرى تؤدي إلى تخريب منظمات و قيم تشكل هوية مجتمعات هذه المنطـقة ، كالأصالة و الخصوصية و قوى التـقيد بالماضي و القـومية والمقاومة و الجهاد بإحـلال قيم أخرى تتوافق و مصالحها كالحداثـة و المعـاصرة و قوى التجديـد و الترويض بالعولمة و التغريب و العالمية و الإرهاب، و هذا ما جسدته المذكرة التفصيلية لمبادرة (كولن باول) والتي تعتبر التعليم البيئة الرئيسية لتوليد الإرهاب وتشير إلى أن 82% من الإرهابيين ينتمون إلى الدول العربية، وتعتبر أن إصلاح التعليم بالمفهوم الأمريكي هو الدعامة الأولى لوأد الإرهاب (25).و هو ما أدى إلى بروز مظاهر التشكيك في هوية الانتماء إلى الأمة العربية لدى شعوب هذه المنطقة، و هو ما وقع قديما و حديثا عند ما تحدث بعض المصريين عن أنفسهم كمصريين فقط كما كان عقب اتفاقية كامب ديفيد، و حديث بعض العراقيين اليوم في ظل التطورات المستمرة منذ حرب العراق 2003 عن عراق ضد العروبة تكريسا لمنظورات سياسية تتجاهل الأبعاد التاريخية والثقافية لهذا البلد.
      إن الغرض من هذا التدافع على المنطقة العربية هو إلحـاق شلل بالوعي المنقـذ و الإرادة و القـوة و تعطيل طاقات الإيمان بالمقاومة و هذا ما يتفق مع قول وزير الثقافة الفرنسي في مؤتمر المكسيك " إن هذا الشكل من أشكال الامبريالية المالية و الفكرية لا يحتـل الأرض ، و لكـن يصـادر الضمائر و مناهج التفكير و اختلاف أنماط العيش " ، و هذا ما قاله الرئيس الأمريكي جورج بوش بعد حرب الخليج الثانية : إن القرن القادم سوف يشهد انتشار القيم و أنماط العيش و السلوك الأمريكي و في هذا نزوع استعمـاري لغزو الآخرين و لمهاجمـة الهويات الثقافيـة و القوميـة و فرض التبعيـة عليها و إذابتها(26).
      و لتجسيد هذه السياسات عملت قوى العولمة على دعم التسلل المتواصل للمفاهيم المغلوطة مستغلة أدوات الاتصال المتاحة لديها من جهة، و إعادة تنمية و إحياء نشاطات المستشرقين من جهة أخرى ففي القارة الأمريكية وحـدها تشير التقارير إلى وجود عشرة آلاف مركـز للبحث والدراسـة يتابـع و يرصد كل ما يجري ليناقش مع صناع القرار لبناء الخطط ووضع الاستراتيجيات وتحديد وسائل التنفيذ لإعادة تشكيل العقل المسلم وإنجاب تلامذة مسلمين لممارسة دوره، والتقدم نحو الجامعات ومراكز الدراسات والإعلام والتربية، لذلك فعلماء الاجتماع والنفس والتربية هم الصورة الأحدث للمستشرقين.
      وقد بلغت مؤلفاتهم في النصف الأخير من القرن العشرين ستين ألف كتاب ألفت في العقيدة وتاريخ الأدب العربي والتصوف والأخلاق وعلوم القرآن وغير ذلك وهي مشحونة بالكذب والطعن في الإسلام ومنها الموسوعات والمعاجم كدائرة المعارف الإسلامية والمعجم العربي اللاتيني وتاريخ الأدب العربي والمعجم المفهرس لألفاظ الحديث، إلى جانب إلقاء المحاضرات وعقد الندوات وإصدار المجلات الخاصة بالعالم الإسلامي ونشر المخطوطات التي تحمل الأفكار الضالة وعقد المؤتمرات الاستشراقية وتخريج المسلمين الذين يحملون الأفكار المعادية واستخدامهم كمعاول هدم(27). وقد سهلت العولمة الرجوع إلى هذه المؤلفات والموسوعات عبر شبكات الإنترنت والبحث فيها، ورجوع الطلاب إلى مثل هذه الموسوعات والمراجع يؤدي إلى تسلل المفاهيم المنحرفة والمغلوطة، إلى جانب الطعن في القرآن ورسالة النبي الكريم والتشكيك في مكانة المرأة في الإسلام وإحياء النعرات والقوميات، مما يشكل تحديا للثقافة و التربية العربية(28).
      أما الشكل الثاني من التحديات التي تمارسها العولمة على الهوية العربية فهو يتمثل في القدرة الإعلامية للـدول و المنظمات الداعية لـفرض ظاهرة العولمة بالعمل على استثمـار منجزات ثورة الاتصالات و التقدم التقني و التكنولوجي في نشر ثقافة واحدة، و بقوالب محددة مسبقة الصنع عمودها الفكر الاستهلاكي الذي يحضر الرأي العام بشكل يجعله جاهز لتقبل قيم ثقافية و اجتماعية عصرية أو هيكل اقتصادي جديد ومن خلال القيم المروج لها تبث المبادئ الثقافية الايديلوجية المستهدفة التي ستعمل بدورها على الحد من المناعة الوطنية أو القومية أو حتى الدينية لقبول هذا النظام الجديد (29). و هذا ما تروج له المحطات الفضائية العالمية فالإعلان أصبح سيد الموقف بمواده الإعلانية الذي تشكل الهاجس الذي تواجهه الأجيال العربية في التفكير و التعامل و حتى أسلوب الحياة من ملبس و مأكل قد وطأته وسائل العولمة فإذا كان الغذاء يشكل علاقة ارتباطية مع المجال السياسي فإن الملبس يشكل بصورة مضاعفة هذه العلاقة لأنه يبرز الصلات الخفية بين المادي و الفكري على حد تعبير رضوان زيادة فبفضل هذه العلاقة يشكل الملبس أداة متميزة لبناء الهويات و التعاملات بينها "فالثوب يصنع الكاهن "كما يقول المثل الفرنسي ، و من هنا فإن العولمة تحرص على صناعة شخصية إنسانية شهوانية فاقدة لأية قيم إنسانية راسخة ذات هوس استهلاكي و فراغ عقلي ووجداني تفتقد لأية مناعة حيال عمليات التنميط الثقافي للعولمة و تهدد امن الهوية العربية ، وتحد من قدرتها في الصمود أمام تيارات الإغراق الإعلامي و الثقافي و الاستهلاكي التي تحاصرها من كل جانب (30) .
      أما تحديات العولمة للهوية العربية على المستوى الاقتصادي فتتمثل في الآليات التي تستعمل من اجل شل بعض الدول العربية جزئيا أو كليا عن طريق عقوبات اقتصادية بهدف إزعاج المجتمع المستهدف و مضايقته و تدميره إلى أن يخضع و تتم السيطرة عليه، و هو ما حدث مع ليبيا و العراق و يحدث مع سوريا و السودان في إطار ما يسمى بنظرية التطويق .
      ومن هنا فالعولمة بأدواتها القائمة على الإغراء و انتهاز الصعوبات التي ستعاني منها هذه الدول حيال المجتمع الدولي ستتدخل بإبراز مفاهيمها و قيمه الجديدة القائمة على حرية التجارة عبر الدول،و السوق المفتوحة و السموات المفتوحة ، و شبكات المعلومات ، و الطرق الدولية ، و الربط الكهربائي بين الدول، وشبكات الاتصال المتوافقة و المعتمدة على الأقمار الصناعية إلى جانب بروز فكرة الخصخصة للمرافق الحيوية و الإستراتيجية و الشركات الكبرى التي تمثل كيان هذه الدول بعرضه في سوق العرض و الطلب العالمي، و من هنا تحكم قبضتها عليها بإحلال الشركات المتعددة الجنسيات محل الشركات الوطنية التي تمثل هوية هذه المجتمعات (31) .
      و هذا ما سينعكس أيضا على الجانب السياسي للهوية على اعتبار أن الوطن العربي يتكون من تركيبة اجتماعية متباينة من عرب و أكراد و بربر و طوائف متعددة من سنة و شيعة ومسيحيين كنتيجة للتقسيمات الاستعمارية التي حاولت صياغة تجمعات قبلية و عرقية و دينية في شكل أمم موحدة ، فمن الطبيعي أن تهتم الدول العربية بموضوع وحدتها غير أن هذه الوحدة غالبا ما استخدمت في إخفاء حقيقة وجود أقليات عرقية أو دينية، و الادعاء بأن ليست هناك مشكلات من شأنها أن تعطي إحساسا زائفا بالأمن سرعان ما يتحول هذا الإحساس تحت وطأة التوترات الاجتماعية التي تنشأ بين الأقـليات و الطوائف. فالعولمة بآلياتها فمن دون شك ستمارس ضغط على الهويات العربية مستغلة مشاكل هذه الأقليات لتحقيق بعض المكاسب الأمنية و السياسية بحجة مبدأ حماية الأقليات و حقوق الإنسان و تحرير المرأة، إلى جانب بعض المبادئ الأخرى المتداولة في هذا العصر كحماية الاستثمارات الأجنبية أو حماية البـيئة و ترسيخ الديمقراطية و الحكم الراشد ، و لكن الحقيقة هو سعي هذه الدول إلى إيجاد معبر و منفذ تتمكن من خلاله فرض سياستها التي تتوافق ومصالحها و هو ما واقع مع بعض الدول العربية التي حاولت الحفاظ على وحدتها كـسوريا ، فيما تعرضت بعض الدول الأخرى إلى التدخل المباشر كالعراق و غير المباشر كلبنان بواسطة المنظمات الدولية ، و دول أخرى لم يكن لها بد إلا بضرورة تكييف سياستها مع هذه التغيرات (32).
      و عليه فإن الهوية في عصر العولمة أصبحت مرتبطة اشد ارتباط بالمستويات الثقافية و السيـاسية و الاقتصادية بحيث لا يمكن الحديث عن هوية عربية منفصلة عن هذه المستويات لما لها من آثار مباشرة على هذا المكون و إن تأمين الهوية العربية ينطلق من قدرة الدول العربية على فهم خصائص العولمة و التكيف مع آلياتها بالشكل الذي يحفظ لها هويتها و ينشط عملية التفاعل مع انجازاتها.

      5- مستقبل الهوية العربية في ظل تحديات العولمة :


      إن النظر لمستقبل الهوية العربية كما يراه برهان غليون ينبغي أن تكون مواجهة العرب للعولمة من خلال إطار إعادة تعريف الذات و مقاومة العولمة كجزء من منظومة عالمية ، و هذا يستدعي الاعتراف بقصور أنظمتنا الاجتماعية و الثقافية و كسر آليات التبعية و الانطلاق نحو العالمية بهدف القضاء على هامشيتنا التاريخية ، و إن الاستسـلام و الرفض للعولمة هو الثقافة المضادة لثقافة العولمة (33).
      من هذا المنطلق فإن حتمية الإصلاح التعليمي و السياسي و الاقتصادي و الثقافي ضرورة ينبغي الإسراع فيها فإصلاح نظم سياسات التعليم و التكوين يمثل عنصرا حيويا في هذا الإطار على اعتبار أن العولمة موجهة في الأصل نحو كيان المواطن العربي و تستهدف أفكاره و قيمه ، و بالتالي إيجاد قوة بشرية مدربة و مؤهلة قادرة على استيعاب التطورات المرتبطة بظاهرة العولمة ، كما أن التعليم بمختلف أنواعه يشكل الدعامة الرئيسية لجهود تنمية الموارد البشرية لذا ينبغي ايلائه العناية بالتطوير و التحديث على اعتبار أن التعليم يتقاطع مع العولمة في أكثر من موقع، فثورة المعلومات و الاتصالات الحديثة بدأت بإحداث ثورة في أساليب التعليم و الوسائل المستخدمة في الحصول عليه، ومن هنا فمفاتيح هذا الإصلاح تتوقف على عناصر ثلاثة أساسية كما يوردها الدكتور عبد الهادي الرفاعي و آخرون هي إيلاء العناية اللازمة لجودة التعليم و اقتصادياتها و مواءمته و مردوده على الفرد والمؤسسة و المجتمع ، ثانيا توسيع قاعدة المشاركة المجتمعية في شؤون التعليم لتشمل مؤسسات القطاع الخاص و المجتمع المدني و بالتالي زيادة ادوار الجهات و المؤسسات غير الحكومية في المراقبة و المسألة ، و ثالثا استثمار تقنيات المعلومات و الاتصالات الحديثة في مراحل التعليم بمختلف أنماطه بما يخدم التوجه نحو اقتصاد المعرفة و مجتمع المعرفة و هكذا يمكن مسايرة العولمة و حماية الهوية العربية (34).
      كما أن للإعلام دور كبير في مواجهة العولمة و حماية الهوية العربية و هذا بذلك يتطلب تأهيل الموارد الإعلامية المتخصصة في معرفة الثورة الإعلامية التي تقودها قوى العولمة و معرفة الأساليب التي تستعملها هذه القوى من اجل فرض الهوية الخاصة بها ، و بالتالي فان الاطلاع على مختلف مجالات الحياة الاقتصادية و الثقافية و السياسية و الاجتماعية و الدينية يساهم في وضع برامج و خطط قادرة على مجابهة برامج العولمة الدعائية و الإعلامية المضادة للقيم و التراث العربي.
      هذا و يعتبر إصلاح المنظومة السياسية يساهم هو الأخر في درأ المخاطر عن الهوية العربية و ذلك بفتح مجال الممارسة السياسية و حرية التعبير و فتح دائرة المشاركة السياسية لكل المواطنين مهما كانت انتماءاتهم ، و تطبيق مبدأ المواطنة ، كما أن ينبغي على هذه الدول سن منطق سياسي رشيد في التعامل مع الأقليات و الاعتراف بها بحيث ينبغي أن يستند إلى إقامة التوازن بين مصالح الوحدة الوطنية و حقوق هذه الأقليات ، و بين التكامل من ناحية أخرى و قبول التعددية الثقافية من ناحية أخرى ، و من ثم تحقيق هدف الشعوب العربيـة في تحقيق وحدتهـا و بالتالـي تتشكل روح الانتماء و الهوية، و لما لا نتحدث حينها على عوْربة الهويات العربية مادام الحديث على أمركة و أوْربة العالم.
      الخاتمة
      إن الهوية باعتبارها محتوى ثقافيـا متجدد الشكل و الظهور و مطلب مهم ينبغـي النضال من أجلـه و تنمية الإحساس به و تقوية العلاقة به و تمتينها بمحتويات تحركها من صورة جامدة إلى صورة عصرية ، و ذلك من خلال استيعاب التغيرات و الانجازات التي أتت بها العولمة و تكييفها وفق حاجاتنا و مصالحنا معترفينا بالأخطاء التي وقعنا فيها و التي أبعدتنا عن حركة التطور و مسار التحديث باتجاه التغريب بفعل التواطؤ غير المعلن لبعض القوى الوطنية و المثقفة مما جعل البيئة الثقافية العربية أسيرة الفكر التقليدي الذي يعيد تجديد نفسه باستمرار فيمنع حركة التحديث من تحقيق غايتها بالتحول إلى حداثة مكتملة ، غير قادرة على تجاوز تناقضاتها بالحوار و التسامح الذي يميز هوية المجتمعات العربية . فإذا كان التجديد كما في الداخل ضروري فإن التفاعل مع عوامل التقدم الخارجية أشد إلحاحا و لا تجديد بدونه، لأن الحداثة التي نطالب بممارستها و الإفادة منها هي الحداثة الكونية ، أما التعلق بحداثة خاصة بنا فهو فهم من الأوهام(35).
      و حتى نتعايش مع العولمة علينا أن نكون مستعديـن و جاهزين بحيث ينبغي تفعيل عناصر هويـتنا و إثرائها بالانجازات الايجابية للعولمة و أن نحذر من المفاهيم الخاطئة للهوية التي تعيدنا إلى سابق عهدنا و ذلك بتبني موقف تربوي و سياسي موحد قادر على مواجهة هذه الضغوطات و التدخلات و تحصين و تقوية الثقافة العربية و الاهتمام باللغة العربية باعتبارها وعاء ثقافي و هوية هذه الأمة إلى جانب الاهتمام بإصلاح المناهج و التعليمة و تطويرها حتى ننمي ثقة الأمة بنفسها و نستطيع تأسيس مبدأ الانفتاح الواعي و التفكير الناقد و أخيرا التهيئة العقلانية و الرشيدة لوسائلنا الإعلامية بما يخدم قضايانا الوطنية .




      just_f
      ( أ ) ( ح ) ( ب ) ( ك ) ( الله ) ( حطك ) ( بقلبي ) ( كلك ) لا للعنصرية لا للتفرد لا للزندقة إن هدف الإنسانية الحديثة هو انصهار الأمة البشرية في قالب تفاعلي موحد من اجل الرقي بالجنس البشري
    • شكرا جزيلاً ..
      لن تستقيم الحياة إن لمْ يستقم عليها الانسان .!
      لن يُحبّ الله أحداً إلا إذا أحبّ الانسان غيره بصدق ..!!
      الحُبّ الحقيقي تتدفّق عاطفته كما يتدفّق الماء من أعلى قِمّة.!
    • اسعدني مروركم
      واطلاعكم على الطرح وتقيمه هو مبتغانا أكيد

      تقديري


      just_f
      ( أ ) ( ح ) ( ب ) ( ك ) ( الله ) ( حطك ) ( بقلبي ) ( كلك ) لا للعنصرية لا للتفرد لا للزندقة إن هدف الإنسانية الحديثة هو انصهار الأمة البشرية في قالب تفاعلي موحد من اجل الرقي بالجنس البشري